اعتكاف السجين

راشد بن حمد الجنيبي

"وهو الذي يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات".. الشورى ، آية 25.

إن الستر رحمةٌ اختصّها الله بجلاله وميزها وجعلها اسماً من أسمائه الحسنى، لكن إذا ضجيج الذنب تجاوز بعزة الإثم جدار الستر، أو جدار الستر اختُرِق بتجسس الآخرين وبحثهم عن الزلّات وإلتماسهم للعثرات، يصبح المذنب بين مطرقة ابتلائه بالذنب وسندان المجتمع، يصبح من الصعب على المذنب وإن ارتقى لمنصّة التوبة أن يتعايش مع أفراد المجتمع بالشكل الطبيعي وأن يحصل على ذلك القبول، ما إن يُكشف الستر يتحول الكثير منّا إلى قُضاةٍ وجلّادين ومحكّمين ومستشرفين على هذا المُبتلى، وحتى إن اتّزن في طريقه يظل بأعينهم خريج سجون أو مدمن سابق أو سارق ولصّ قديم، ويصل إلى مرحلة مُثيرة للشفقة، عندما تتأمّل هذا المنظر البائس بين المذنب التائب وفريق الشامتين والمنفّرين الكثر ومع استذكار قصة بداية الخلق كـالعادة، تحمد الله أنهم لم يولدوا مع أبانا آدم عندما اقترب من الشجرة!

الأخطاء "المجتمعية" بالتحديد والتي يُحرمها المجتمع كثيرة، لكن دعنا نختزل الأخطاء التي يحرمها العرف العام ويجرّمها، كالمخدرات والسرقة وغيرها من فروع الأخطاء التي تضرب بالوتر الحساس بحفيظة المجتمع بشكل عام، وتصنع سمعة سيئة لهذا المذنب، مثل هذه الأمور لن تبرِّئ "التائب" إن صح التعبير، طيش شباب، لحظة ضعف، وسوسة إبليس، صحبة سيئة، الحاجة، الفقر، كلها أسباب يذكرها التائب ولا تقنع أحد وإن كان في السجن قد أخذ عقابه، فالسجن الأكبر لهذا المسكين هو بين سياط أعين المستشرفين والمبالغين بالقلق، فمثلاً خرّيج السجون، بعد أن خسفت به ظروف الحياة وبمآسيها، وكَوَتْه المصاعب والأزمات النفسية بالسجون المركزية، حقاً يجد نفسه بعد ذلك في سجنٍ أكبر، فلا يُثق فيه ولا يُزوّج ولا يُؤتمن ولا يُصادَق وقِس على ذلك المتعالج من إدمان المُخدرات والتائب من السرقة وكل خطأ تتصوره، فيضطر إلى العودة من حيث أتى ويستمر في نفس الطريق، فلا يجد إلا الهجرة والسفر من البوتقة التي نُبِذَ منها أو (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). بعيداً عن الشكوى والتأوّه، هناك جهة أخرى تسمح باستيعاب كمٍّ جيِّد من الحلول..

مسألة تعايش التائب "عوضاً عن اسم خريج السجون" مع المجتمع والتأقلم على نمط الحياة الطبيعي أعوّلها على مؤسسات الإصلاح والتأهيل (Correction institutions) وهي من اختصاصهم، وهذه المؤسسة أو اللجنة تكون تحت إدارة السلطة التنفيذية أي تابعة لإدارة السجون، أي من ضمن برنامج التأهيل يُلزَم نزلاء السجون بالقيام بخدمات مُجتمعية على سبيل المثال، كأرصفة الطرقات والمساعدة في البناء والتشييد وغيرها، وذلك لقتل الفراغ فيهم ولتعزيز مفهوم أُلفة تكاتف المجتمع في دواخلهم، وفي مقرّات السجون تُترَك لهم مساحة لإطلاق عنان خيالهم ومهاراتهم وأي هواية، بدلاً من المساعدة لإعداد "الدال" فقط، أي فن أو مدخل يمكن أن يُليّن من نفوسهم! يحكى أنّ في بلاد فارس قاموا بإحدى التجارب للمساجين، حيث رأوا أن هناك اختلافا في سلوكهم وانطباعهم بعد فترة عقوبة السجن، بل إنّ نفوسهم لانت وصارت أقرب إلى اللطف، وعند البحث وجدوا أن هؤلاء المساجين كانوا يعملون على حياكة السجاد الفارسي الناعم بخيوطه الحريرية، ذاك الفن في صنع السجاد وتلك النشوة العطرة، مسحت عليهم شيئاً من بلسم السماحة!

في الجهة الأخرى .. توعية المجتمع، يجب أن يرسخ في ذهن الجميع أن المتهم بعد عقوبته له حق أن ينعم بحقّه في الحياة، وذلك بموجب كل الأعراف، أؤمن بأن مسألة توعية الجموع بأمر تقبّل واستيعاب "التائبين" تتبناها جهات عليا في الدول، ترسيخ مفهوم تقبّل السجين التائب يجب أن يكون من عدة جهات وطرق، برامج للتوعية والتثقيف لكيفية تقبلهم، وهذه البرامج وهذه التوعية تكون عن طريق المدارس والمساجد بخطبها وكل منابر الثقافة، بل حتى من خلال المشاريع ومؤسسات التنموية، كل ذلك الجهد "القومي" الوطني حتى يترسخ ويُخلق الوعي فعلاً، تذكّر في النهاية أن هناك دولا أغلقت عدداً من سجونها المركزية بالاحتضان والاستيعاب حتى يصبح السجن معقلاً للتجديد والتطوير بدلاً من أن يكون مرتعاً للشياطين!! حتى يصبح السجن دار اعتكاف لكل التائبين.