مسرح الطفل.. الدراما المغيبة في مجتمعنا

عزيزة الطائي

يعد المسرح الموجه للطفل وسيلة تعليمية وترفيهية بما يقدمه من قضايا وأفكار تمكننا من بناء الطفل جسمانيا ووجدانيا وعقليا، وما يحتوي عليه هذا الفن الدرامي من فوائد سلوكية ونفسية تساعد الطفل على تهذيب انفعالاته وسلوكياته، وتحرره من انغلاق ذاته.

إن الاهتمام بالمسرح الموجه للطفل ليس ترفًا فنيا، بل ظاهرة حضارية تحمل رؤية ثقافية، وتوجه تربوي تعنى به المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية الحديثة في الدول المتقدمة. فقد أولت الدول اهتمامها لهذا الفن الذي يتعاطى مباشرة، ودون حواجز مع رغبات الطفل واهتماماته، وخصصت برامج وخططًا لقضايا الطفولة وحقوقها التي أخذت مساحة مهمة في القرن العشرين وما خلفته الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ وتوجهت الأمم إلى إعادة بناء ما تركته هذه الحروب، وترميم بقايا الدمار التي ألحقته بالإنسان، فكان لابد من رسم الخطط والبرامج لإعادة تأهيل المجتمعات عن طريق التركيز على بناء الأجيال وإيلاء التعليم والثقافة الجانب الأكبر.

وتأتي أهمية المسرح الموجه للطفل بما يتركه من أثر طيب مباشر على نمو الطفل من خلال الأفكار المطروقة، والمشاهده المعروضة، وطبيعة شخوصه التي تلبي حاجاته المعرفية والترفيهية، وعن أثر هذا التأثير يرى الكاتب الأمريكي مارك توين Mark Twain أن للمسرحية تأثير على حواس الطفل ستتجلى حين يبدأ الطفل استيعابها وإدراكها من خلال تعاطيه المباشر مع المحيطين به، أو تعرضه لمواقف تقوده إلى حسن التصرف، ملخصًا ذلك بقوله: "أعتقد أن مسرح الأطفال من أعظم الاختراعات في القرن العشرين، وأن قيمته التعليمية الكبيرة التي لا تبدو واضحة أو مفهومة في الوقت الحاضر سوف تنجلي قريبًا".

ومسرح الطفل فنٌ درامي تمثيلي موجهة أهدافه إلى الطفل مباشرة بما يحمله من منظومة القيم الأخلاقية والتعليمية التي تصقل مهاراته، وتدفعه للمشاركة في الحياة بحب وانطلاق مما يجعله وسيلة هامة من وسائل نمو الطفل، وصقل شخصيته. فالمسرح لا تكمن فائدته باعتباره وسيطًا معرفيًا فحسب، بل تتركز فائدته في ما يتركه من تأثير على سلوك الطفل ووجدانه، وما يكتسبه من قيم نبيلة، وطباع، خيرة، وعادات طيبة، وتجارب متعددة، وأفكار نيرة تسهم في تكوين شخصية متفاعلة متكاملة. كما يتجلى تأثير المسرح على كيان الطفل بأكمله بكل ما يحويه من مؤثرت تعبيرية وفنية كالديكور المتناسق، والألوان المنسجمة، والإضاءة المبهرة، ومؤثرات الصوث والصورة؛ مما يشكل عاملاً مهمًّا في تعميق تفاعل الطفل مع ما يشاهده من أحداث متتالية، وقضايا تهمه مرسومة وفق خطة واعية تجذبه، وتلفت انتباهه، وتعمق اندماجه بالعالم الذي لم يخبره بعد، ولكنه يستشعره معروضًا على خشبة المسرح بإيقاعاته المتوالية، وألوانه المتعددة بالصوت والصورة.

والطفل بطبيعته يرتبط ارتباطًا جوهريًا في التمثيل منذ سنوات عمره الأولى من خلال خياله الإيهامي وخياله الحر، وقدرته على تحويل هذا الخيال إلى رسمة يشكلها، أو حكايات يقوم بتمثيلها، وبعد تفاعله معها يبدأ بمسرحة القصص التي يؤلفها فيخرجها ويمثلها مع أقرانه؛ من ذلك كله نستطيع القول أن علاقة الطفل بالمسرح علاقة فطرية اندماجية تبدأ معه حين يندمج مع ألعابه وأقرانه ويستحضر خياله فيبدأ بمسرحة الأوراق والأقلام والألعاب، ورسم الجبال والرمال والجدران من حوله ليخلق منها عالما جديديدا يتلاءم مع ميوله واتجاهاته.

إن المعلومة التي ترسل من خلال المسرحية يسهل اقتناصها من قبل الطفل بشكل أسرع وأمتع، علاوة على القيمة التربوية التي يحصل عليها، وهو يتابع تسلسل الأحداث بمشاهد حية بكل اهتمام وإدراك فتبقى في ذاكرته؛ الأمر الذي يؤكد لنا كتربويين ومربين أن تلقي المعلومة بين الجدران الأربعة في غرفة الصف أو المنزل لن يكون بمثل جاذبية وفائدة المسرح، وما يحدثه من تأثير حركي وإبهار يشد انتباه الطفل ويستأثر بمشاعره وحواسه.

وعند الحديث عن مسرح الطفل، علينا التفريق بين نوعين: المسرح الذي شخوصه من البشر، والمسرح الذي شخوصه من العرائس؛ وكلا النوعين مهم ومفيد، وله ذائقة خاصة، وتأثير مختلف على الطفل حيث يشترك النوعان في القضايا التربوية والأخلاقية واللعب والفكاهة التي تهمه، إضافة إلى مستوى اللغة التي يتكلم بها الشخوص. والأهم من كل ذلك أنْ تكون بمستوى الطفل وإدراكه، حتى لمسات الديكور والإضاءة والأصوات والملابس، فهي تحقق للمسرحية أهدافها المنشودة، وقيمتها المعرفية بتطوير دافعية الطفل نحو التعلم بوصفه نشاطًا ذاتيًّا صفيًّا، وغير صفي، يمارسه الطفل في المنزل والمدرسة والحديقة فتسهم في تنمية مشاعره المرجوة كتقدير الذات، والمشاركة الإيجابية، والإدراك السليم، والتعبير بطلاقة، إضافة لتعزيز بعض القيم التربوية، كالعدل والمساواة، والحب والتسامح، والتعاون والالتزام، ومفاهيم الدين الحنيف كالصدق والأمانة والبر والإحسان؛ وهو بهذا كله يجمع بين المتعة والتعليم والفن.

ومن ذلك كله، نؤكد ضرورة إعداد كوادر وطنية متخصصة بمسرح الطفل قادرة على التعامل مع هذه الفئة العمرية من مؤلفين ومخرجين وممثلين، وأن يكونوا على دراية عميقة بخصائص أدب الطفل وعوالمه؛ لنتمكن من تقديم العمل المسرحي المناسب الذي يثير اهتمام الطفل، ويلامس مشاعره، وينمي التعاطف في نفسه عبر ما يقدمه المؤلف بجانب المخرج من فن وإبداع.. ونؤكد على دور المخرج لما له من دور في نجاح المسرحية، وتلقي رسالتها بكل وضوح للطفل الذي لا تفوته لحظة عند متابعة العمل الشيق والمؤثر، مدفوعًا إلى ذلك برغبة شديدة، وفضول لمعرفة ما يعرض أمامه من تأثير وإدهاش وجاذبية، وهذا يسهم في الارتقاء بذوقه الفني، وتنمية الإحساس الجمالي لديه. ويقينًا منا أن الوصول إلى المسرح المرجو وما يتسم به من رقي لا يتحقق إلا بتكاتف المؤسسات الفنية والثقافية والتعليمية والاجتماعية لتوفير الإمكانيات اللازمة بغية تأسيس مسرح للطفل متعدد الأنواع وفق المستويات العمرية الخاصة لكل مرحلة. ولاشك أن الانطلاقة الأساسية للمسرح وتأصيله تتطلب منا الكثير، وتأتي من المؤسسة التعليمية بأن تكون على وعي بذلك عند تصميم المناهج وتطويرها، وتحديد الوسائط التعليمية المناسبة ضمن خطة تسير عليها عند مسرحة المنهاج؛ لما له من فوائد تصب في خدمة الطفل من حيث إثراء خبراته، وتنمية ثقافته، وتطوير قدراته اللغوية وصقل مواهبه، وتطويعها بما يتلاءم مع الدراما المسرحية في الأناشيد والموسيقى وليس التمثيل فقط، إضافة لتعزيز اتجاهاته الإيجابية نحو التمسك بالقيم الفاضلة.

وحينما نشير إلى النصوص التي يجب أن تبرمج للمسرحة، فإنه يمكن القول بأن التراث العربي به من الثراء الكثير من الأساطير والحكايات التي يمكن مسرحتها وتقديمها بحيث تناسب نمو الطفل خاصة عند التركيز على شخصية مؤثرة من الموروث الشعبي، والتاريخ الجمعي، وهذا ما يتناسب مع طبيعة المرحلة العمرية، فهو في حاجة إلى المثل أو الشخصية القريبة من نفسه ليعيش بخياله تجاربها وبطولاتها! إضافة لقصص الحيوانات المحببة إليه التي يستفاد منها بحيث تكون ملبية باهتمام الطفل، ومتصلة بقضاياه، تعينه على التفكير والابتكار، وتقدم له معارف هادفة تنمي لديه القدرة على التمييز والتكيف مع الآخرين، عبر استخدام الوسائط والمؤثرات المناسبة بحيث تحول الأفكار إلى واقع ملموس جاذب ومقبول.