الوقاية بأضعف الإيمان

د. سيف المعمري

أثارت خطبة الجمعة الماضية جدلا ونقاشات لا تزال ممتدة حول الموضوع الذي ركّزت عليه وهو "المال العام"، تعودنا على أن خطب الجمعة تطرق عادة مواضيع متعلقة بالحياة الشخصية للأفراد لا بتلك الإشكاليات التي تمس الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي يتأثرون بها ويحملون جزءا من كلفتها، فلماذا هذا الخروج الاستثنائي من التركيز على قضايا الحياة الشخصية إلى موضوع عام يعد من واجبات المواطنة التي يحركها القانون مثل "المال العام"؟ لا أريد أن أفترض أنّ الخروج عن تلك القاعدة جاء بمحض الصدفة من باب الرغبة في تنويع مواضيع الخطبة، ولا أريد أن أفترض أنّ الحديث كان موجهًا إلى تلك الجموع التي جلست في ساحات المساجد التي لا ينال غالبيتها من المال العام إلا راتبه الشهري أو ما قرر له من بعض الامتيازات البسيطة مثل قطعة أرض في أي مكان كان واديا أم جبلا، فماذا يتوقع من مثل هؤلاء للحفاظ على المال العام؟

حتى نتبين تلك الافتراضات لابد من الرجوع إلى مضمون الخطبة ونحاول أن نحدد مفهوم المال العام الذي تبنته الخطبة، والمخاطب الذي وجهت له هذه الخطبة، والمضمون المتعلق بالمال العام الذي ركزت عليه الخطبة، والأثر والمعالجة التي حاولت الخطبة أن تقدمها للحد من انتهاكات المال العام، وفيما يلي توضيح لتلك النقاط:

 

أولاً: مفهوم المال العام: جاء في الصفحة (1) في تعريف المال العام بأنّه نوعين؛ خاص وعام، ولم تكن الإشكالية في تعريف المال الخاص إنّما كانت في تعريف المال العام الذي عرفته الخطبة تعريفا جيدا في البداية وهو كل ما "أقلته أرض الوطن وأظلته سماؤه"، قبل أن يخصص المفهوم تخصيصا يفقده جانب أساسي من معناه حيث أعطت الخطبة مزيدا من التوضيح له وهو أنّه "مما خصصته الدولة للمنفعة العامة" ونحن نعرف أنّ المال العام أشمل من تلك الفضاءات حيث يشمل كل الثروات الطبيعية المعدنية والزراعية والسمكية والتراثية، وأيضًا الإيرادات والموازنات، وأوجه الإنفاق وغيرها، وتقديم مفهوم ضيق للمال العام يقود إلى تأويل ضيق لأوجه انتهاكه وهذا ما سيتضح لنا في مضامين الخطبة حول المال العام.

ثانيا:" المخاطب بانتهاك المال العام، لم تتعامل الخطبة مع فضاء خاص محدد يحمل مسميات لها معنى مثل "المواطن" أو "المسؤول" أو "رجل الأعمال"، إنّما وظفت كلمة "الناس" وهي مبهمة عامة لا تحدد الفاعلين المؤثرين على "المال العام حاليا"، فتقول الخطبة "ألا فليتق الله أناس لا يرعوون عن الاعتداء على الأموال العامة" (ص1)، ويصف المخاطب لفظة "امرئ" في منتصف الخطبة (ص2)، وبعد ذلك يشار إليه بـ "الإنسان" (ص3)، ويستمر الخطاب المبهم حتى نهاية الخطبة بالصفحة الرابعة حيث نجد ذكر عرضي للفاعلين الأفراد الذين يحملون صفة رسمية وهم  "كل مسؤول أو موظف"، وبالتالي فإننا أمام خطبة في مجملها موجهة للعامة وما ذكر لفظة "المسؤول في نهايتها" إلا محاولة لإضفاء توازن عرضي في الخطاب رغم أنّ مستوى تأثير هؤلاء في المال العام كبيرا جدا.

ثالثاً: ما انطبق على المفهوم الذي قدمته الخطبة للمال العام انطبق على المضامين والأمثلة التي قدمتها لتوضيح معناه، حيث تذكر الخطبة في الفقرة الأخيرة من الصفحة الثانية أنّ تلك الانتهاكات هي "تغيير لعلامات الأرض"، و"عدم سداد أجرة الانتفاع بمحل أو أرض مخصصة لشيء مبهم وهو بيت المال" ولا نعرف هل تقصد به الخطبة "بيت مال المسجد" أم "بيت مال الدولة"، وتتوالى الأمثلة في الخطبة ومنها "تبذير أموال صيانة الأفلاج"، و"الاستحواذ على أموال الأوقاف"، و"تضييق الطريق على المسلمين"، و"استخدام أجهزة العمل"، وتحاول الخطبة أيضا أن تربك المستمعين وإضفاء الموضوعية في طرحها حيث تورد ما يمثل أولوية في انتهاكات المال العام، ويعرف الجميع تزايد تأثيره حيث تقول "وذلك الذي يجامل في إرساء المناقصات، وتوقيع العطاءات"، ومن ضمن الأمثلة التي ذكرت هي "عدم سداد ديون الجهات الممولة من البنوك وغيرها"، وتؤكد الخطبة أيضا على "إيقاف عدادات المياه والكهرباء"، وتصدمنا الخطبة في نهاية قائمة الأمثلة التي أوردتها لتوضيح المقصود بانتهاكات المال العام بمثال لا نعرف كيف يمكن أن يفسر على أنه انتهاك للمال العام وهو "البناء في الأودية المارة في البلدان"، وأيضا "ترك الدواب سائبة في الأحياء والمساكن"، ولذا فإنّ الخطبة لم تلامس الإشكاليات الكبرى التي يواجهها المال العام، وعملت بمثل هذه الأمثلة على تحجيم مثل هذه القضية الكبرى لاسيما في مثل هذه الظروف الاقتصادية.

رابعاً: الأثر على انتهاكات المال والمعالجة، لم تربط الخطبة تأثير هذه الانتهاكات على مصلحة الوطن العليا وعلى أمنه واستقراره وعلى حق أجيال المستقبل من الحفاظ على ثروات بلدهم ومقدراته، إنّما ضيّقت الأثر ليشمل فقط حق "اليتامى والأوقاف  ومن لا يملك أمره من الناس"، وفي ذلك اختزال كبير للآثار الناتجة من انتهاكات المال العام على فئة كبيرة من المواطنين بل إن آثرها يمتد للأجيال القادمة، ورغم تلك الفداحة لانتهاك حرمة المال العام إلا أننا نجد الخطبة تصيغ موقفا فيه شيئا من السلبية  من عدم أمانة القائمين على المال العام حيث تقول "فإن جاروا في عملهم فالله تعالى حسيبهم".

لاشك أنّ المعطيات السابقة في تعاطي خطبة الجمعة مع انتهاك الأموال العامة تزيد من صعوبة مهمة الحفاظ على الأموال العامة، لأنّها تقدم قراءة مختزلة للواقع فقضية المال العام متعددة الجوانب والأبعاد والمستويات، وكل الدول التي طرقتها كانت دائما تركز على النواحي الأعمق أثرا لإصلاح النواحي الأقل أثرا وليس العكس، ولذا فإنّ مثل هذه الخطبة تدعو الناس إلى تبني "أضعف الإيمان" حيال انتهاك الأموال العامة إذا استحضرنا الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، فنحن نعلم أنّ التغيير باليد واللسان هذه شأن الجهات المعنية التي تمتلك الصلاحيات والأدوات والمعلومات وهي الجهات التي لم توجه لها الخطبة نداءً صريحا رغم علهما بامتلاكها القوة التي تمكنها من فعل ذلك.