زاهر المحروقي
يُعد كتاب "التاو" -المسمى باللغة الصينية "تاو تي تشنج"- أهم الكتب المقدسة في الصين على الإطلاق؛ فقد تناوله منذ آلاف السنين الباحثون بالبحث والمترجمون بالترجمة، وقد أثر هذا الكتاب كثيرًا في كلِّ أديان الشرق الأدنى -بما فيها: البوذية، والطاوية، والكونفوشيوسية، والشنتوية- واهتمت بالكتاب وتبنته عدةُ مدارس غربية. ومؤلفُ هذا الكتاب هو الحكيم أو الفيلسوف الصيني لاوتزو، والذي تشير بعض المصادر إلى أن ولادته كانت في نهاية القرن السابع قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام؛ وبين لاوتزو وبوذا خمسون عامًا فقط، وهي الفترة نفسها التي عاش فيها كونفوشيوس، الذي التقى مع لاوتزو. صدرت النسخة العربية من كتاب التاو من دار الفكر بدمشق، بترجمة الدكتور مسلم سقا أميني، تحت عنوان "كتاب الصين المقدس".
إضافة إلى المقدمة التي كتبها الدكتور مسلم والخاتمة، فإن الكتاب يقع في جزءين رئيسيين، مجموعُهما معاً يبلغ 81 فصلاً أو مقطعًا. وفي الواقع، فإن مقدمة الكتاب تُعتبرُ في حدِّ ذاتها دراسة متكاملة عن الديانات الشرقية؛ ويطرح فيها المترجم العديد من الأسئلة، خاصة أنه عاش في الشرق فترة طويلة من الزمن، مكَّنته من دراسة الأديان الشرقية القديمة. ويقول المترجم إن فصول الكتاب لم تكن مرتبة في النسخة القديمة علي أيِّ نحو؛ إنما أضيف إليها التسلسل الرقمي حديثًا. ويرى أن السبب ربما يعود إلى أن لاوتزو لم يجد الوقت ولا المزاج النفسي ليقوم بترتيب وتنسيق الفصول والفقرات؛ فقد كان مكتئبًا حزينًا، وهو ابن أيام مضطربة وزمان متقلب، وكان قد ضاق ذرعًا بالقيم الكونفوشية والطقوس والمراسم، فآثر الرحيل قاصدًا العزلة. وفي رحيله هذا ترى فكرةُ الكتاب النور، فعدما بلغ لاوتزو إحدى نقاط الحراسة على حدود المملكة، أوقفه قائد الحرس -الذي سيصبح فيما بعد واحدًا من أهمِّ المفكرين الطاويين- وطلب منه أن يضع له كتابًا يحوي خلاصة أفكاره "بما أنه ذاهب هذه المرة بلا عودة". وهكذا جلس لاوتزو وتناول دواة وقلمًا، وراح يسجل في خمسة آلاف كلمة، أشهر مدونة تراثية في تاريخ الصين، ثم قام وذهب في طريقه إلى منتهى غايته.
ولا يمكن للقارئ أن يلم بتفاصيل الكتاب دون أن يكون قد قرأ مقدمة الكتاب؛ فمقاطعُ الكتاب في الأصل قصيرة ولكن كلَّ مقطع يضم الكثير من الأفكار والأقوال في جمل قصيرة جدًا، قد تحتاج أحيانًا إلى شرح، تمامًا مثل بعض أقوال وحكم الصوفية المغرقة في الرمزية؛ لذا فقراءة المقدمة ضرورية، مع ملاحظة الهوامش التي تشرح بعض الغموض؛ لأن الكتاب بشكل عام له طابع رمزي باطني صوفي إلى حد كبير؛ فهو محاولة لنقل خبرات اكتُسبت عبر استخدام كلمات لها محدودية الجسد؛ لذلك كان لا بد أن يتصف بالرمزية الشديدة؛ فمعارفُ الروح وتجلياتها لا يمكن نقلها بالكلمات إلا من خلال استخدام الرمز والتمثيل. وقد أوضح المؤلف مرارًا أن هذا الكتاب ليس موجهًا للعوام أو حتى لمثقفي الكراسات كما يسميهم، إنه كتاب موجه فقط إلى العليّة من الحكماء والقادة ممن يتمتعون بنضج روحي كبير، وإلى من يفهم لغة الإشارة والرموز.
ويقول المترجم إن عنوان الكتاب بالصينية هو "داو دي تشنج"، وترجمة العنوان ليست بالأمر البسيط، فبدون فهم الكتاب كله لا يمكن ترجمة العنوان بدقة؛ فالكتابُ مؤلفٌ من قسمين؛ الأول معنون بكلمة "داو" والثاني بكلمة "دي". ويحتوي القسم الأول على سبعة وثلاثين مقطعًا؛ والقسم الثاني على أربعة وأربعين مقطعًا. أما الكلمة "تشنج" فتعني كتاب. فلترجمة العنوان كمرحلة أولى نستطيع أن نقول إنه كتاب "الداو والدي" وطريقة الوصول إليه. ولكن ما معنى الداو والدِّي؟
يدور الكتاب حول صفات الداو أو التاو أو الطاو حسب التسمية العربية، ويركز على طريق الوصول إليه، وهو الطريق الذي يسميه لاوتزو الصراط أو الطريق الذي يوصل إلى عين اليقين، أي إلى الداو الذي ليس كمثله شيء، والذي لا شريك له، وهو الذي يرجع إليه كلُّ شيء.. إنه الذي تدركه البصائر لا الأبصار، إنه الذي يخفى من شدة ظهوره، إنه الذي خلق الجميع، إنه أصل السماوات والأرض، إنه القويّ، إنه العزيز، إنه الظاهر، إنه الباطن، إنه العدل، إنه الحكيم، إنه الواسع، إنه الشامل، إنه الخفي، إنه الولي، إنه النصير، إنه الذي لا يمكن وصفه من خلال الكلمات، وإذا أردنا أن نصفه ولا بد، فيجب أن نستخدم حروف التشبيه "كأنه" "كمثله"، لأنه فوق كلِّ ما يمكن إثباته أو إنكاره.. إنه الذي لا يمكن التفكر بذاته؛ الذي يعرفه لا يتكلم عنه، والذي لا يعرفه يثرثر عنه كثيرًا؛ وكلما حاولتَ تحديده ابتعدتَ عنه.
يقول لاوتزو بعد أن يقدِّم تلك الأوصاف للداو: "يجب أن نترقى في محاولة الوصول إليه تدريجيًا حتى نصل إلى درجة الفناء فيه أو الاستسلام المطلق له، وعندها كلُّ شيء سيحدث حسبما يريد، إنه دومًا مع المظلوم، ومع المحسن".
أما الكلمة الثانية، وهي "الدي"، فهي حرفيا تعني الاستقامة والإخلاص الذي ينبع خالصًا من القلب، إنه الالهام أو الهداية؛ فالجزء الثاني من الكتاب هو شرح للطريق الذي يجب أن يسير عليه العارفون للوصول إلى الداو. إنه يؤكد على الفطرة السليمة للإنسان، وعلى أنها هي الهداية، ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يزيل كلَّ الحجب. إن هذا الجزء من الكتاب يشرح أيضًا كيفية الخلق والتسوية وكيفية التقدير والهداية.
ملخص ما يقوله الكتاب هو أن النفس هي كرسي الوهم والخطر والهوى؛ لذا يجب قهر النفس والتغلب عليها من خلال الاستسلام الكامل للداو. القلبُ الشاغر تمامًا هو الوحيد القادر على عكس الحقيقة العظمى من خلال لقائه. وحبُّ الدنيا وحب الشهرة والعجب بالنفس هي تحجب القلب عن الداو. وفقط من خلال إغلاق كلِّ بوابات النفس نستطيع أن ندخل باب الداو؛ وبالتالي نتمكن من أن نجوب العالم دون الخروج من باب الدار.
ويتكلم الكتاب -بشكل مسهب- عن صفات الأولياء والعارفين للداو، وكيف تصبح أحوالهم بعد معرفتهم له. والصفاتُ التي يتركها الكتاب تطابق إلى حد كبير الصفات المعروفة إسلاميًّا لمثل هؤلاء العارفين؛ فهو يؤكد أن هؤلاء لا يهتمون بذواتهم وشهرتهم على الإطلاق؛ لذلك فإن الندرة من الناس تعرفهم، وأن كلَّ همهم هو معرفة الكون ومساعدة المخلوقين ومعرفة الداو.
ويذهب الدكتور مسلم سقا أميني إلى اعتبار كتاب الصين المقدس أهم كتاب ديني بعد القرآن والإنجيل.