حتى نضمن بيئة سياسية صالحة لأجيالنا القادمة (4)

د. راشد البلوشي

طبعا، يعلم الجميع أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وألمانيا وروسيا وبريطانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية، هي أقوى دول العالم اقتصاديا -مما أسهم في كون بعضها الأقوى عسكريا- ولكن: ما السبب وراء هذه الحقيقة؟ باختصار: السبب هو أن الحكومات في هذه الدول قدمت الدعم والتمكين (من خلال الأنظمة والقوانين وتوفير البنى الأساسية وفتح الأسواق ومكافحة الاحتكار والإغراق) للشركات الكبيرة والعالمية. وبالمقابل، فإنَّ هذه الشركات قامت بدورها في دعم العلوم والبحوث وتطوير منتجاتها وتجويدها من خلال تمويل الأبحاث في مراكزها البحثية الخاصة، وكذلك في الجامعات المحلية وشراء براءات الاختراع حتى وصلت منتجاتها إلى الجودة التي نعرفها مما سوقها في مختلف دول العالم بأسعار أحيانا تنافسية (كالمنتجات الصينية واليابانية والكورية)، وأحيانا عالية (كالمنتجات الأوروبية والأمريكية). فوجود شركات مثل مايكروسوفت وأبل وجنرال موتورز ولوكهيد مارتن ورايثيون...وغيرها جعلتْ من الولايات المتحدة قوة اقتصادية وعسكرية عظمى. (نود الإشارة إلى أنَّ لوكهيد مارتن ورايثيون شركات خاصة وليست حكومية، ولكن الحكومة تتحكم في إنتاجها من السلاح، وكذلك الدول التي يمكنها بيع السلاح لها). وشركات مثل تويوتا وميتسوبيشي وفوجيتسو وباناسونيك وغيرها جعلت من اليابان الاقتصاد الثالث عالميا. وشركات مثل ديملركرايسلر وسيمنز وفولكسواجن...وغيرها جعلت من ألمانيا التي لا تصدر النفط الاقتصاد الرابع في العالم. وشركات مثل سامسونج وهيونداي وإل.جي إلكترونيكس جعلت من كوريا الجنوبية الاقتصاد الرابع في آسيا. والأمثلة كثيرة على شركات كبيرة وعالمية جعلت من دولها قوى اقتصادية (ومن ثَم عسكرية وسياسية) عالمية. طبعا، لا نطلب من الشركات العمانية الكبيرة والعالمية أن تصبح مثل هذه الشركات غداً، ولكننا نتمنى أن تبدأ بالتخطيط غداً لأن تصبح مثل هذه الشركات في المستقبل.

ولكي تقوم الشركات الكبيرة والعالمية بدورها الوطني على أكمل وجه، يمكن أن تسن الجهات المعنية في السلطنة من التشريعات ما يطالب هذه الشركات بالمساهمة الفاعلة في تمويل التدريب والتعليم العالي والبحث العلمي. حيث إنَّ دور القطاع الخاص لا يجب أن يقتصر على الجوانب الربحية (من خلال إنشاء المدارس والمستشفيات الخاصة والمراكز التجارية وأخذ مناقصات المشاريع الحكومية)، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى المشاركة في استدامة التنمية. فما ننشده (حتى نكون اقتصادا لا يعتمد على النفط، كألمانيا واليابان...وغيرها، ولو بشكل جزئي) هو قطاع خاص يتصف بالشراكة الحقيقية في العملية التنموية الشاملة وليس قطاعا خاصا متصيدا لفرص الكسب السريع (مثل صغار مقاولي البناء الأجانب الذين يجمعون مئات الملايين ويحولونها خارج البلاد سنويا)، ولا يُسهم في التنمية على المدى الطويل. وكذلك لا ننشد شركات كبيرة وعالمية تقوم على الربحية فقط، ومن ثم تأخذ الأموال المكتسبة في السلطنة لاستثمارها في بنوك سويسرا أو في شركات أوروبا أو في مصانع أمريكا، وتكون النتيجة هي أن الأموال العمانية تدعم اقتصادات دول أخرى بينما تبقى السوق العمانية تبحث عن المستثمرين، ويبقى الشباب العماني يبحث عن مَن يدعم تعليمه وتدريبه وتشغيله.

وحتى لا يُساء فهمنا، فإننا لا نطالب مؤسسات القطاع الخاص ورجال الأعمال بأن يعطوا أموالهم للحكومة، ولا للناس فقط، وإنما للمجتمع ولأنفسهم. يقول الله تعالى: "و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا". ونعلم جميعا أن مصائرنا ستحدد ليس بقدر ما نكسب ونجمع ونكنز، ولكن بقدر ما ننفق في وجوه الخير. ولنعتبر ذلك استثماراً في رصيد الوطنية أو رصيد الآخرة أو حتى رصيد المصلحة الدنيوية لأن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية استقرارا سياسيا يجني ثماره الأغنياء مثل الفقراء وربما أكثر منهم، فالأغنياء هم من يملكون الشركات والبنوك والمصانع ورؤوس الأموال التي تحتاج للاستقرار السياسي لكي تنمو وتزدهر. فهم يستفيدون من أرض الوطن وأمنه واستقراره ومواطنيه وجميع موارده وكذلك البنى الأساسية فيه لكي تنمو أعمالهم وتزدهر. وبالمقابل، فإنَّ الاعتمادات الحكومية ذات الصلة توجه لمشاريع دعم مؤسسات التعليم العالي والتدريب التقني وتطوير الموارد البشرية، وكذلك المصروفات الجارية مثل الرواتب والترقيات. لهذا؛ فإنَّ القطاع الخاص يجب أن يمثل المصدر الأهم في مجال تمويل الخدمات والتوظيف.

أردنا من خلال هذا المقال التذكير بأنَّ مصدر قوتنا كدولة وشعب هو أولا توحدنا ويقيننا بأننا في نفس "المركب"، وثانيا العدالة (قضائيا واجتماعيا) لأن العدل هو أساس الحكم، والحكم أساس النظام، والنظام هو ما يُشْعِر المواطنين (والمقيمين) بحقوقهم وواجباتهم، وأنهم يتمتعون بنفس المواطنة في نظر الدولة، فلا فرق ولا تمييز بينهم. لذلك؛ فإنَّ التحدي الأكبر هو المحافظة على هذه القوة، والتي هي مصدر هذا الاستقرار السياسي الذي يحسدنا عليه الآخرون.

 

 

* أستاذ اللغويات المساعد بجامعة السلطان قابوس

تعليق عبر الفيس بوك