التراث الثقافي غير المادي.. الحكاية الخرافية نموذجًا

 

 

د. آسية البوعلي

في مقال سابق بعنوان "التراث.. تعريفه وأقسامه وأجناسه وطبيعته"، والذي نُشر بجريدة الرؤية في 6 سبتمبر 2017، تناولتُ في عجالة تلك المفردات، وكان الهدف من مقالي التمهيد لمقالي الآتي الذي يتمحور حول نموذج من نماذج التراث الثقافي غير المادي، وتحديدًا في جنس من أجناس الأدب الشعبي؛ ألا وهو "الحكاية الخرافية"، وهذا بهدف الإجابة عن أسئلة ستأتي في مقالات لاحقة. هذه الأسئلة هي: هل باستطاعتنا إحالة الحكاية الخرافية إلى حكاية شعبية؟ وهل بإمكاننا استنباط حكاية شعبية من حدث مهم كثر الحكي عنه؟ وهل بإمكاننا استثمار الأخيرة أي الحكاية الشعبية في أي مشروع اقتصادي؟

تعرف الحكاية الخرافية بأنها "حكاية مركبة من سلسلة موتيفاتMotives ، وتدور أحداثها في عالم خيالي غير واقعي، ويسيطر على أحداث الحكاية العجيب والغريب، وفي هذا العالم العجيب ينتصر الضعفاء على الأقوياء، ويكثر فيه الحديث عن القصور والممالك والأمراء والأميرات" (1).

ومن هذا التعريف، نخلص إلى أنَّ المكان والزمان في الحكاية الخرافية ينتفي فيهما سمة الواقعية، كما تنتهي الحكاية الخرافية بالنهاية السعيدة على شاكلة أن يتزوج البطل من الأميرة، وأن ينال الأشرار عقابهم والاخيار ثوابهم، فضلاً عن أن الشخصيات فيها إما شريرة على الإطلاق أو خيرة على الإطلاق.

يعدُّ فلاديمير بروب (1895-1970) من أهم الدارسين الروس للأدب الشعبي، بأجناسه المختلفة. له أكثر من دراسة في هذا المجال من تلك الدراسات كتاب بعنوان "مورفولوجيا الحكاية الخرافية" الذي نُشر في العام 1928م، وترجم فيما بعد إلى الإنجليزية والفرنسية والعربية. الكتاب يعدُّ من المصادر الأساسية في الدراسات الأكاديمية التي تتخذ من الحكاية الخرافية موضوعًا لها.

تنبُع قيمة هذا الكتاب في أن مؤلِفَه جمع مائة حكاية خرافية روسية، وعكف على دراستها في ظل تصور منهجي شكلاني، بمعني أن فلاديمير بروب لم يركز على متن الحكاية أي موضوعها قدر ما كان تركيزه على مبناها أي النسق البنيوي الذي يتحكم في هذه الحكايات (وبلغة بسيطة معمار الحكاية الخارجي).

بعد تحليله لتلك الحكايات، توصل إلى أنَّ فيها ما هو متغير يتمثل في أسماء الشخصيات، وعمرها، وجنسها، ووضعها، ومظهرها الخارجي وسماتها الداخلية...إلخ. وهناك ما هو ثابت يتمثل في أفعالها ووظائفها. وعليه، اعتبر بروب وظائف الشخصيات من الوحدات الأساسية لبنية الحكاية الخرافية، وأطلق على تلك الوظائف مصطلح الوحدات الوظيفية (Functional Unites)، كما خلص إلى أن عددها يبلغ إحدى وثلاثين وحدة وظيفة، ليس بالضرورة أن تجتمع جميعها في كل حكاية خرافية، إلا أنَّ بعض الوحدات الوظيفية تتكرر وبشكل ثابت وبنفس الترتيب في الحكايات؛ وهذه الوحدات هي: الخروج، التحذير، المقابلة، المواجهة، الزواج.

1- وحدة الخروج: أي خروج البطل للحصول على شيء ما مرغوب فيه أو لغرض مفقود.

2- وحدة التحذير: أي تحذير البطل من شر ما، وعادة ما يخالف البطل المحظور.

3- وحدة المقابلة: أي مقابلة البطل للشخصية المانحة التي تساعده -بواسطة أداة سحرية- في الانتصار على الشخصيات الشريرة.

4- وحدة المواجهة: أي مواجهة البطل للشخصيات الشريرة وانتصاره عليها.

5- وحدة الزواج: أي زواج البطل من الأميرة (بنت الملك أو السلطان)؛ مما يدل على النهاية السعيدة.

كما توصل فلاديمير بروب إلى أنَّ كل حكاية خرافية لابد أن يتوافر فيها العدد "سبعة" فإذا لم يتوافر العدد في شخصيات الحكاية بشكل مباشر، فإنه قد يتوفر في مهلة ما؛ "أسبوع" مثلاً على البطل أن ينجز مهمته، أو أنه يتزوج الأميرة السابعة من حيث الترتيب، أو يجتاز السبع سلالم أو يمر على سبع بلاد، ويعبر سبع بحار...إلخ.

إنَّ ورود العدد سبعة الحكايات الخرافية أو الشعبية لم يأت من فراغ؛ فهو من الأعداد التي ترمز إلى الكمال، ومِن ثمّ يُعتد به لدى شعوب كثيرة، نظراً لمرجعيته الأسطورية والعقائدية والكونية والشعبية. لذلك تناولته دراسات كثيرة لا مجال لسردها لكن باختصار نقول: العدد "سبعة" في الميثولوجيا القديمة، خُلق العالم في سبعة أيام، وفي الأديان السماوية، خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع. والسماوات سبع والأراضي سبعة والأفلاك سبعة، وأيام الأسبوع سبعة والحبوب سبعة. وفي بعض التقاليد الشعبية يُمنح الطفل حمامه الأول في اليوم السابع لميلاده (السبوع). وفي الديانة المسيحية يُعمد في اليوم السابع من ميلاده، كما أن حالات القمر سبع، والألوان الأساسية سبعة، والسلم الموسيقي سُباعي، وقراءات القرآن الكريم سبع، ومراحل التصوف سبع، ومقاماته سبعة، والعدد سبعة هو "رمز الاكتمال والدائرة المكتملة والإنجاز والمبادرة والتطهر والحكمة، وهو أيضاً رمز للحركة عبر الزمان والمكان، وصولاً إلى المطلق والكلى، إلى الأمن والاستقرار والراحة وحسن المآل". وهذا العدد قد يشير إلى دورة الحياة وحالة التكامل فيها من أجل العودة إلى البداية أو الميلاد، إذًا هناك دلالات لا حصر لها لهذا العدد (2).

--------------------------------------

(1) راجع: هناك أكثر من تعريف للحكاية الخرافية عبر شبكة الإنترنت.

(2) لمزيد من التفاصيل عن العدد سبعة والدراسات والمراجع التي تناولته باستفاضة راجع: (asyahalbualy.wordpress.com)، بحث بعنوان "القصص الشعبي العُماني: دراسة في الشكل والمحتوى لنموذجين الحكاية الخرافية والحكاية الشعبية".

 

* مستشار أول للعلوم الثقافية بمجلس البحث العلمي