ما هو مصير مزارعي النجد؟!

د. عبدالله باحجاج

لماذا تَبْدُو قضية المزارعين في منطقة النجد بمحافظة ظفار مُعقَّدة، وتتَّجه للتعقيد أكثر بعيدا عن الحل؟ بل إنه -أي الحل- لا يلوح في الأفق أبدا، رغم توجُّه الدولة نحو النجد لتوفر فيه كل مقومات مستقبلنا الغذائي، كيف نجحت مؤسسات الدولة في مناطق أخرى من البلاد، وأخفقت في النجد بظفار؟ فعندما نقارن قضية النجد بقضايا مُماثلة في مناطق أخرى من وطننا، نجد الحلَّ يتم لصالح المزارعين، وبسهولة، ويقال من جلسة واحدة غالبا، ما عدا في النجد.. لماذا؟!

هذه القضية قد كتبت عنها عِدَّة مقالات قديمة وحديثة، ولا تزال الإدارة المحلية في ظفار ترفض الانفتاح الإيجابي على القضية، رغم تشكيل لجنة من عدة مديريات حكومية إقليمية، لن نكرر ما تناولناه في تلك المقالات -ويمكن الرجوع إليها- وإنما سنحاول هنا طرح قضية المزارعين من منظور التساؤل التالي: هل يستحق هؤلاء المزارعون الملكية والحيازة الزراعية أم لا؟ نزلنا إلى الميدان بحثا عن الإجابة التي تضع حدًّا لهذه القضية المثيرة للجدل.

فمن أين البداية؟

وَجَدنا جذورَ القضة ترجع إلى العام 1983، أي أجداد المزارعين الحاليين، وبالتحديد شخصيات بارزة من بيت الكثير، عليهم رحمة الله، فقد كان لهم زمام المبادرة في محاولة البحث عن الماء في الصحراء، بدأت من الولاية نفسها ثمريت، وبطرق تقليدية "الورور" وقد وصولوا إلى أعماق 52 مترا، بحثا عن الماء من أجل الزراعة، واستغرقت ما بين سنة ونصف وسنتين، غير أنَّهم صرفوا النظر عنها بعد أن استنفد الأكسجين في تلك الأعماق، واتجهوا بعد ذلك إلى الهيلة، للهدف نفسه، وهو الماء من أجل الزراعة، وهذا التحول وراءه استشارات مجتمعية رجحت الماء في الهيلة من مُنطلق معرفتهم بالمكان تاريخيًّا، ووجود شجرة الراك التي تذهب الاعتقادات الاجتماعية إلى أنها لا تنبت إلا في المكان الذي يوجد فيه ماء، وهناك تم اكتشاف الماء على عمق 15 مترًا.

ومن هنا، بدأت قصة الزراعة في النجد، بعد إصرار الجيل الأول من بيت الكثير -عليهم الرحمة والمغفرة- وتحديداً الذين اكتسبوا خبرة الزراعة في صلالة، وأرادوا بإصرار منقطع النظير الاستفادة منها في زراعة مناطقهم الصحراوية. علينا هنا تخيُّل حجم هذا الجهد وضخامته، والإرادة الحديدية لهذا الجيل، وكيف تمكَّنوا من تطويع ظروف الصحراء القاسية لصالح زراعة الفواكه والخضراوات في رمال متحركة، وطبيعة قاسية جدا، وهنا نقف مترحِّمين على هؤلاء الأفذاذ، داعين الله -عزَّ وجل- لهم بالرحمة والمغفرة. فمن خلال جهدهم ونتائجه، استلم الجيل الجديد الأمانة، وأمضوا بقوة دفع ذاتية جديدة على مواصلة مسيرة أبنائهم وأجدادهم، فاتحين من خلال نجاحاتهم الجديدة المبهرة للحكومة إمكانيات النجد الزراعية الواعدة، وانضم إليهم شباب من مُختلف ولايات السلطنة، وليس محافظة ظفار فقط، حيث تمكن الكثير منهم، من تحويل الصحراء إلى واحات زراعية تنتج مختلف الخضراوات والفواكه والأشجار بما فيها التمور، وهناك 1300 مزرعة مُعظمها تزوِّد سوقنا المحلي بأهم احتياجاته: الطماطم، والجوح، والبصل الأخضر، والبامية، والفجل، والشمام، والجرجير، وحتى الحشائش، وعلى مدار العام، بعد إدخال هؤلاء الشباب التقنية الحديثة في الزراعة كالبيوت المحمية وأجهزة الري الحديثة.

بل إنهم حطَّموا الأسعار لصالح المواطن/المستهلك، بعدما كان البائع الوافد يحتكرها، وسنأخذ أمثلة لذلك، للاستدلال على أهمية نجاحاتهم، وآفاقها المستقبلية، فقبل إنتاجاتهم النجدية، كان يباع كرتون الطماطم بسعر 3.500 ريال ويصل في ذروة الطلب إلى 5 ريالات، وبعد إنتاجهم، بِيْع الكرتون بريال واحد، ونزل عند فائض الإنتاج إلى 400 بيسة، وبالنسبة للجوح والشمام كان يستورد من إيران والهند، ويباع الكيلو بـ300 بيسة، بينما وصل إنتاج النجد إلى سعر 100 بيسة للكيلو، وكان سعر الفلفل البارد 2.500 ريال للكرتون الذي يزن 8 كيلوجرامات، وبعد إنتاج النجد وصل إلى ريال واحد. هذه الاستدلالات المختارة، تجعلنا نقف عند مسألتين مهمتين؛ هما: تحطيم الأسعار، وفتح إمكانية تأمين سلة غذائنا من النجد، وهنا الإنجاز والإعجاز في آن واحد يُحققه شبابنا بذواتهم الخاصة وإمكانياتهم المالية المتواضعة في صحراء الربع الخالي.

التساؤلات الموجَّهة لمؤسسات الدولة

- هل البُعد التاريخي لاستزراع الصحراء يعني شئيا لسلطتنا المحلية؟

- هل استمرار الجيل الجديد ونجاحاتهم في الصحراء يُعطيهم الحق في الملكية والحيازة الزراعية بعد هذه النجاحات أم لا؟

- لماذا الازدواجية بين المزارعين في البلاد؟

يكفي القول هنا بأنَّه وحتى لو لم يكن للكثير من هؤلاء المزارعين ذلك البُعد التاريخي بالمكان، وبديموغرافيته الصحراوية، لكفى بنجاحاتهم الذاتية سببا كافيا ونهائيا ليس في الحيازة الزراعية بل في الدعم المالي والتسويقي؛ لأنهم خلقوا الحياة البشرية في صحراء رمالها متحركة، وطبيعتها قاسية، وصنعوا الاكتفاء من مجموعة كبيرة من الخضراوات والفواكه، وفتحوا للحكومة مُقوِّمات النجد لمواجهة تحديات أمننا الغذائي، فكيف إذن تلاقِي البُعدين التاريخي والديموغرافي مع صناعة تلكم النجاحات؟

 

شركة نجد للتنمية الزراعية

وتفتح مبادرات أهالي النجد الفردية الناجحة -للجيلين الأول والثاني- الآفاق الحكومية نحو حل الكثير من المشاكل الزراعية في البلاد؛ مثل: استنزاف المياه بسبب زراعة الحشائش وبالذات في سهل الباطنة، وكذلك توجُّه الاهتمام الوطني نحو النجد لتأمين سلة غذائنا، تجلى ذلك عبر إنشاء شركة حكومية لإقامه 3 مزارع للحشائش في حنفيت ووادي دوكة ووادي بني خويطر، بتكلفة 36 مليونا و300 ألف ريال.

 

لكن.. ما هى النتائج؟

حلُّ مشكلة استنزاف المياه في سهلي الباطنة وصلالة، وتوفير الحشائش لمربِّي الحيوانات، والاخطر هنا: دخول هذه الشركة مع المزارعين في النجد في حرب أسعار، جعلتهم -أي المزارعين- يبيعون الحشائش بسعر التكلفة، وهذا بُعد آخر مهم يُلقِي بظلاله على نجاحات الشباب في استزراع الصحراء؛ مما قد يؤثر على استمرارهم في هذا النجاح؛ فماذا نتوقع من البيع بالخسارة في ظل الديون المترتبة عليهم من البنوك؟ خاصة وأنَّ المزارعين مواطنون لا يملكون السيولة المالية، ومصدرهم التمويلي البنوك؛ فلماذا لا تلجأ الشركة إلى التنسيق معهم، خاصة وأنهم الأسبق على الأرض؟

ولدى الكثير ممن التقينا مواقف سلبية من هذه التنافسية؛ حيث يعتقدون أن وراءها دفعهم للإفلاس، وترك الصحراء لمثل هذه الكيانات الكبيرة، ويربطونها بقضيتهم الأصلية مع السلطات المحلية التي ترفض إعطاءهم الملكية والحيازة الزراعية حتى الآن رغم نجاحاتهم الباهرة في الصحراء، وهذا شعور نفسي وجدناه طاغيا على نفسياتهم، ويثير الاحتقان، خاصة عند أولئك الذين يشعرون بارتباطهم التاريخي بالمكان نفسه.

 

كُبرى المفارقات

وهى تكمُن في موقف السلطات المحلية الرسمية؛ فمنذ عام 1983، لم تمنع، ولم تمنح، ومواقفها حتى الآن متناقضة، وهى بين مد وجزر، ليس لديها رؤية واضحة، فبعد مسح وحصر المزارع والآبار عام 2009، أعطيت للمزارعين وثيقة رسمية تعطيهم الحق في الاستفادة من الخدمات الحكومية؛ فتمكن الكثير منهم من إدخال التيار الكهربائي وشق مسارات للطرق لمزارعهم، كما تمكَّن آخرون من الحصول على قرض من صندوق سند يصل ما بين 60-100 ألف ريال، وجاءت في مرحلة لاحقة، وسحبت مثل هذه الحقوق، وجعلت الآن المزارع عالقًا، لا هو تمكَّن من الحصول على التيار الكهربائي، ابتداءً أو توسعا، ولا القروض من البنوك.

والسبب شرط توافر الملكية والحيازة الزراعية التي تماطل فيها السلطات المحلية، والتي أصبحت شرطا وجوبيا للحصول على القروض وعلى الخدمات الحكومية كدخل الكهرباء، إذن: ما هو مصير المزارعين الذين حصلوا على تلك القروض الكبيرة؟ بل التساؤل نفسه يُطرح على مجموع كلِّ المزارعين القدامى!!

إذن.. هل اعتقاد المزارعين سالف الذكر له ما يُبرِّره هُنا؟

 

شركات جديدة في النجد

وفي الوقت الذي تُماطِل فيه السلطات المحلية هؤلاء المزارعين، نجد في المقابل إقبالا من شركات محلية على النجد؛ فقد علمنا بموافقتين رسميتين لإنشاء شركتين جديدتين؛ إحداهما للألبان، والأخرى للحوم، ومثل هاتين الخطوتيْن مُباركتان، وتنمَّان عن استدراك وطني للنجد الزراعي لدواعي أمننا الغذائي الذي تكتنفه مجموعة تحديات جيوسياسية، لكن هذا يطرح مصير المزارعين -الأفراد- الذين كان لأجدادهم ولهم السبق في اكتشاف إمكانيات صحراء الربع الخالي الزراعية -كما أسلفنا إلى ذلك- هل ستتركهم سلطاتنا المحلية وحيدين في الصحراء يُواجهون مصيرهم فيها، في وقت تعطي الملكيات والحيازات الزراعية شركات حكومية وخاصة؟

والسؤال: أين الحل؟!

الرُّجوع إلى مسوحات عام 2009، وتخطيط المساحات الخضراء على الواقع، ومن ثم منحها الملكية والحيازة الزراعية، وبالنسبة للآبار الممسوحة في ذلك العام، منحها مساحة للزراعة، ومن ثم إعطائها الحيازة من أجل الاستفادة من الخدمات الحكومية، وفق شروط ضامنة للزراعة، مع إمكانية دراسة حق الاستثمار الزراعي في الصحراء وفق شروط معينة للمواطنين، بدلا من أن يكون هذا الحق احتكارا على شركات معينة، على أن تكون هناك جهة إشرافية تدير ملف الزراعة في النجد من منظور التكامل الغذائي مع استخدام السياسة المالية للدولة في توجيه المبادرات لخدمة هذا التكامل. ودون هذا الانفتاح الإيجابي، ماذا تتوقع سلطتنا المحلية خلال المرحلة المقبلة؟ الإجابة مفتوحة.. لكنها مُتخيَّلة!!