منظمة التعاون الإسلامي.. أسمع جعجعة ولا أرى طحنا

 

زاهر بن حارث المحروقي

إذا أردتَ إفشال أيِّ مشروع، فما عليك إلا تشكيل لجان كثيرة وعقد العديد من الاجتماعات؛ فهذا وحده كفيلٌ بوأد المشروع. هذا القول يحمل من الصدق ما يحمل، وهو مُشاهَدٌ في حياتنا اليومية؛ فكم هي كثيرةٌ المشاريع والاجتماعات التي تُعقد دون تحقيق أيِّ نتيجة.

وعربيّا وإسلاميّا تأتي قضية القدس والمسجد الأقصى تحت هذا الإطار. فالقضيةُ في الأساس يجب أن تحتل المركز الأول في اهتمامات شعوب وحكومات الدول العربية والإسلامية، إلا أنّ كثرة المنظمات واللجان المشكَّلة حول ذلك، حالت دون تحقيق أيِّ إنجاز يُذكر للمسجد الأقصى؛ حتى بات قاب قوسين أو أدنى من التهويد والتهديم، لولا بسالة الشعب الفلسطيني.

فمن جامعة الدول العربية مرورًا بلجنة القدس، والتحالف العسكري الإسلامي، إلى منظمة المؤتمر الإسلامي التي تغيّر مسماها إلى منظمة التعاون الإسلامي، وهي المنظمة التي تأسست في الأصل لنصرة المسجد الأقصى، عانى المقدسيون ما عانوا، إلا أنّ إيمانهم بعدالة قضيتهم نجح في تعطيل التهويد بما قدّموا من أرواح ودماء وتضحيات، واستطاعوا أن يفرضوا على دولة الاحتلال إزالة البوابات والكاميرات التي وضعتها يوم 14 يوليو الماضي، وأوقفوا ما قام به جنود الاحتلال من الاعتداءات، من خلال اقتحامات واسعة وغير مسبوقة للمسجد الأقصى.

منظمةُ التعاون الإسلامي، هي – كما يعلم الجميع - منظمة دولية تجمع سبعًا وخمسين دولة، وتصف نفسها بأنها "الصوت الجماعي للعالم الإسلامي"، وأنها تهدف إلى حماية المصالح الحيوية للمسلمين. ومعلومٌ أنها تأسست في الرباط في 25 سبتمبر 1969، إذ عقد أول اجتماع بين زعماء العالم الإسلامي، بعد حريق الأقصى في 21 أغسطس 1969، وتم وقتها طرح مبادئ الدفاع عن شرف وكرامة المسلمين، المتمثلة في القدس والمسجد الأقصى، وذلك كمحاولة لإيجاد قاسم مشترك بين جميع فئات المسلمين؛ واختيرت مدينة جدة مقرًا مؤقتًا للمنظمة، بانتظار تحرير مدينة القدس، حيث سيكون المقر الدائم. إلا أنّ الأعوام والسنين مرّت وظلت المنظمة في مقرها المؤقت ويبدو أن مكوثها هناك سيطول، فيما استمرت في عقد الاجتماعات تلو الاجتماعات، ولسانُ حال المقدسيين يردِّد المثل العربي: "ما لنا نسمع جعجعة ولا نرى طحنًا". والمعنى أنّ الفلسطينيين سمعوا صوت الرحى بدون أن يروا طحينًا منذ عام 1948.

وإذا كان العالم قد سمع جعجعة وقرقعة العرب والمسلمين، إلا أنّ هناك من يحاول ليَّ الحقائق وإظهار أنّ منظمة التعاون الإسلامي هذه "تسعى إلى السيطرة على كلِّ العالم وليس فقط القضاء على دولة إسرائيل"، مع أنّ المنظمة في ديباجتها لا تشير من قريب أو بعيد إلى "القضاء على دولة إسرائيل". فقد كتب الصحفي الإسرائيلي إفرايم هراره، في صحيفة "إسرائيل اليوم" عدد  3 أغسطس 2017، تعليقًا على اجتماع المنظمة في تركيا من أجل مناقشة موضوع القدس، مقالاً ادعى فيه أنّ عمل المنظمة لا يقتصر على النضال من أجل الفلسطينيين، فهي تتدخل في شؤون المسلمين الآخرين، وهي موالية لأسس وقناعات الإخوان المسلمين، وتعمل من أجل سيطرة الإسلام على كلِّ العالم.

ورغم أنّ منظمة التعاون الإسلامي هي في الواقع منظمة شكليّة وصوريّة، لم تحقق شيئًا ذا بال طوال 48 عامًا، إلا أنّ الكاتب الإسرائيلي إفرايم هراره يختم مقاله بأن يقول: "من الواضح أنّ منظمة التعاون الإسلامي هي تهديدٌ وجوديّ ليس فقط لإسرائيل؛ بل لكلِّ الغرب، لذلك بدلاً من تجاهل طلباتها الفظة في موضوع القدس، يجدر أن تشعر إسرائيل بأنّ هذه الحرب هي مرحلة في خطة عالمية من أجل فرض الإسلام". وهذا يجعلنا نتساءل: إذا كان هذا هو رأي بعض الكتاب الإسرائيليين في منظمة صوَريّة، فكيف لو كانت هذه المنظمة فعلية وتسعى فعلاً إلى تحرير القدس من الاحتلال الصهيوني؟

وعلى عكس الكاتب الإسرائيلي نجد الدكتور محسن صالح يُلفتْ نظرنا في مقال له بصحيفة "الأمان" اللبنانية بتاريخ 4 أغسطس 2017، تحت عنوان "الأقصى والقدس.. طفح الكيل.. أما آن للأنظمة أن تخجل؟!" إلى الميزانية الهزيلة التي تخصِّصُها منظمة التعاون الإسلامي للجنة القدس المنبثقة عنها، والتي لا تتجاوز العشرة ملايين دولار، وهي أقل بكثير من ميزانية شراء لاعب كرة قدم لأحد الأندية، وأقل بكثير ممّا يُصرف على الاحتفالات والبهرجات ومظاهر البذخ التي يعرفها الجميع. ويرى أنه لو افترضنا أنّ البلدان العربية أرادت أن تنفق من إيراداتها النفطية ما يساوي قيمة الزكاة فقط لدعم القدس وتحريرها؛ لبلغ الإنفاق السنوي أكثر من 15 مليار دولار، في الوقت الذي تُنفق فيه هذه الأنظمة عشرات مليارات الدولارات سنوياً لشراء أسلحة تتكدّس في مخازنها، أو تُستخدم في السيطرة على شعوبها، أو في الصراعات الداخلية فيما بينها. أما السلطة الفلسطينية في رام الله، فإنّ ميزانية وزارة شؤون القدس لديها سنة 2016، كانت حوالي 12 مليون دولار، من أصل نحو ثلاثة مليارات و765 مليوناً هي ميزانيتها الكلية، أي نحو ثلاثة بالألف من ميزانيتها.

في الواقع إذا اعتمد الفلسطينيون على الأنظمة العربية وعلى المنظمات والاتحادات واللجان الكثيرة المشكَّلة للقدس، فإنّ مصير القدس إلى التهويد ومصير المسجد الأقصى إلى التهديم؛ فالأنظمةُ العربيةُ استمدّت شرعيتها في العقود الماضية من التغني بالقضية الفلسطينية، ولكن الآن تريد هذه الأنظمة أن تتخلص من القضية برمَّتها، لأنها أصبحت تكشف عوارها. ومتى ما حقق الفلسطينيون انتصارًا ما، كما حققوه بصمودهم، فهناك من سينسب النصر والفضل إلى نفسه ونظامه. وهناك بعض الأنظمة العربية تعمل أساسًا لدعم الهدف الإسرائيلي بتهويد المدينة وتهجير من تبقى فيها من الفلسطينيين عندما لجأت إلى شراء منازلهم بأثمان غالية ثم قامت ببيعها إلى الإسرائيليين.

لا يمكن أن تتحرر القدس ويتحرر المسجد الأقصى إلا بصمود الفلسطينيين أنفسهم، وتركهم لخلافاتهم جانبًا، وعدم انجرارهم إلى صراعات الآخرين، كأن يُصنِّفوا حركة حماس أو الجهاد الإسلامي بأنهما حركتان إرهابيتان؛ فالحركتان كانتا جدار صد لحماية الهوية المقدسية والفلسطينية لسنوات طويلة. ورغم أنّ مسؤولية المسجد الأقصى ينبغي أن تكون مسؤولية كلِّ المسلمين إلا أنّ الواقع الآن غير ذلك. ونقولها – متأسفين – للفلسطينيين الذين ضحّوا بأرواحهم ودمائهم وقدّموا الغالي والنفيس، ألا ينشغلوا بالجعجعة، فهي كاذبة، والطحن بعيد، وما عليهم إلا سلوك خيار المقاومة، وهو خيارٌ مشروع حتى وإن ظهر المثبطون والمُحبِطون، وحتى إن تغيّرت المفاهيم.