رحلت أستاذي .. وبقيت الكراسة

 

زينب الغريبية

 

لا زالت تلك الملاحظات على أعمالي المضافة ضمن مُقرر طرق التدريس في السنة الرابعة من البكالوريوس حاضرة في ذهني، ولا زال مشهد الإخلاص والتَّفاني الذي ألحظه في عينيك في مُخيلتي، مضى على تلك الأحداث أكثر من عقد من الزمان، ولا زالت وكأنها حدثت بالأمس، تلك الأشياء الخالدة التي تبقى للإنسان حتى بعد رحيله..

 

يأتي الناس إلى هذه الدنيا، وهي عبور لمرحلة أخرى أبدية، ويبقى لكل منِّا مسلك يقضي به حياته الدنيوية، لم يختر أياً منِّا لونه ولا نسبه ولا الأرض التي يُولد عليها ولا الزمان الذي يعيش فيه، عندما نكون قد وعينا على الحياة، وأدركنا معناها، نجد أنفسنا مُنتمين إلى بلاد ونسب وزمان، علينا أن ننطلق منه ونبدأ رحلة الحياة مُتكيفين مع معطياته.

 

هكذا سردت لي رحلة حياتك، عشت في غربة عن أرضك التي لم توفِ لك حتى بأساسيات الحياة، قذفتك الرياحين يمُنة متى يحلو لها، ويسرة في الأحوال الأخرى، قبلت بالعمل طفلاً في أعمال بسيطة تكاد توفر لك لقمة العيش، أحببت العلم وبدأت تسرقه خلسة بالنظر والمُراقبة، لم يكن يُسمح لك بالتعلم فما أنت سوى صبي يعمل خادماً في البيت، ولكنك كنت تذهب لسرقة العلم وراء مرآهم، كافحت لتبقى رغم قسوة الحياة، تعلمت حبًا ولا تعلم حينها ما يخبئ الزمن للإنسان المُتعلم، قرأت فأحببت الكتب، وكانت ونيستك زمن الشقاء..

 

لم تعد لتلك البلاد القاسية، وإن كانت القسوة ليست بالطبيعة ولا الأرض، ولكن بمن يمسك زمام الأمور بها، فتتقاذفها الأنفس الشريرة التي لا ترى إلا مصالحها الشخصية فوق كل شيء. أخذت فتاة عمرك زوجة لك، ورحلت بها مجددًا بحثاً عن علم وعمل وحياة كريمة، عشت عمرك بعيدًا عن تلك القسوة التي لم تكن اختيارا لك قبل أن تقدم إلى هذه الدنيا..

 

شغف العلم جعل لك قوة بأن تتعدّى الحدود العربية، وتلتحق بجامعات الغرب حيث العلم المنظم، وجدية التعليم، نهلت منه وأخذت أكبر الشهادات من أكبر الجامعات العالمية، لتعود بها بكل ود إلى البلاد التي قهرتك يوميا، ليس لسبب إلا لأنها قدرك الذي غُلِّب عليك يوماً، لترتحل بينه وبين بلدان الجوار التي شاءت الأقدار أن تنهل من علمك وعطاؤك، وكانت تلك المرحلة التي قد تكون ذقت فيها معنى أن يصل الإنسان لمكان قد سعى وعانى الكثير وربما هي المكافأة التي يستحقها من يسعى ويجتهد.

 

وكان ذلك مكافأة لنا نحن بأن توجد بيننا، ونكون طلبة لشخصية عظيمة، قضت عمرها في صراع مع الحياة وقسوتها من أجل البقاء.. وكأن تلك القسوة هي ما كتبت لك في الحياة، لتعود لبلدك وتبني منزل العمر الذي وضعته لبنة لبنة، بصحبة من تبقى معك من أبنائك الذين تشتتوا في هذا العالم، لم تكمل السنتين استقرارًا في المنزل الجديد، حتى اشتعلت الحرب وقضت عليه، ما كان عليك سوى الرحيل مجبرًا مجددًا، بيدك حقيبتك كما لو كان المشهد يتكرر ثانية، ولكن هذه المرة زاد عليه بأنك تحمل في جسدك مرضاً خبيثًا لا أحد يستطيع إيقاف سريانه..

 

هل بدأ الصراع مجدداً ؟ أم أنه لم ينته أصلا؟ قبل أن ترحل حيث البلد العربية التي استقبلتك رغم مشاكلها وأزماتها، مررت علينا كمر السحب المودعة، لتعطرنا بما تبقى من قطرات العلم الذي طالما نهلنا منه، لن أنسى جلسة العشاء التي جمعتنا ونحن في حوار تعددت فيه المشاهد بين الثقافة والنكتة، والحديث عن الماضي وعن الحياة، لن أنسى ذاك الأستاذ الأب المدرسة..

 

قست الحياة عليك حتى أن رحيلك كان في غربة عن الوطن، وعن الأمن والسلام، في صراع مع المرض ذاك العدو الذي إذا تضافرت معه قلة الإمكانات لمواجهته قضى علينا، رحلت وقد كنَّا ننتظرك لتعود لنا كما وعدتنا لننظر في الكراسة التي تركتها في البيت معي كي نطورها لكتاب، اتفقنا أن نحتفل به في معرض الكتاب القادم، لم رحلت قبل أن نحتفل؟ لم رحلت قبل أن نصنع الكتاب؟ فدائماً تخبرني بأنك تكب كل ما تريد وما يجذبك أثناء قراءتك في كراسات وقد كثرت أعداد تلك الكراسات، ومن حسن حظي أن واحدة ما زالت معي، أعدك بأني سأخرجها للنور، وسنحتفل بها سوياً.. وداعا لجسدك الطاهر، وتبقى أرواحنا على أمل اللقاء يوماً ما..