الحكمة من الاختلاف

حاتم الطائي

خُلقنا لنختلف.. مُسلَّمة لابد لها أن تترسَّخ في الأذهان، لها تأصيلُها في قرآننا الكريم، وَهَدْي نبينا العظيم، وهي ثقافةً مُتأصِّلةً إنسانيًّا تُعِيْن على إيجاد حالاتٍ من التَّدافع الفكري والتباين في المناهج والمواقف، كمطلبٍ طبيعيٍّ لثراء حياتي مليء بكمٍّ هائلٍ من الآراء والأفكار، وكتدليل على صِحَّة المجتمعات وعُنفوانها الفكري. لكنَّ المتمعِّنَ فيما وصلت إليه الحال اليوم من اتساع أجواء الاصطراع القِيَمي، وتفشِّي الأزمات في العالم، يُدرك حجم الخلل الذي أصاب منهجية تلك الثقافة، فتحوّر جوهرُها وتنوَّعت ألوانُها واستُعْمِلت فيها كلِّ وسائل التكفير والتخوين والتشويه والتسفيه... إلى آخر تلك الأوصاف التي يُوزَن لفظها على وزن "تفعِيل". ونِتَاج ذلك ما نراه اليوم من تعثُّرات في وهاد الخلاف، وسقوط في قِيْعَان المماحكات، لم نجنِ منها سوى مزيدٍ من التمزُّق والصِّدامات الحضارية، في نقضٍ للعهد الإنساني القائم على مَبْدَأ التعايش والتكامل، الذي نصَّت عليه شريعتنا: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".

إنَّ الاختلاف كثقافةٍ، ليس جزءًا من ثوابت خَلْقِ الإنسانِ فحسب، بل هو سُنَّة كونية وقانون يعيش في دائرته الجميع: يختلفون في أجناسهم وألوانهم، في مُعدلات السعادة والشقاء، في الوسع والجَهْد والتحمُّل، في العقائد والمُعتقدات، في الرُّؤى الفكرية والأبعاد الشخصيَّة، في الانتماءات السياسية والمصالح المجتمعية، في أساليب الحوار والنقاش، في التصوُّرات والعادات والتقاليد.. وهذه القناعات حينما تصطدم بالصُّور المتفرِّقة من واقعنا اليوم، تُثير العديد من التساؤلات: لماذا أصبح اختلافنا مشوَّهًا بهذا الكم من ندوب العنف والاحتراب؟ ولماذا اتَّسع ليشمل كل هذه المجالات؟ وهل مراحل التحوُّل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي يمرُّ بها العالم من حولنا أفقدتنا بوصلة الاختلاف الإنمائي إلى حَيْث مرافئ الفرقة والخلاف، والتوتر والاستثارة؟ لقد ذابتْ مُفردات الاختلاف في فَوْضَى واقعٍ جَرَفَ الكثيرَ من العقول، واستولى على الألباب، حتى لدى أصحاب الفكر والنظر في العلوم الإنسانية، فغابت أرضية الاتفاق والتعايش، وغاب معها مبدأ: "عليك أن تفهمني، وعليَّ أن أفهمك".

وفي وقتٍ نعيشُ فيه ثورةً معلوماتيةً مُعقَّدة، وتسابقًا في مِضْمَار التنافس العالمي نحو الصفوف الأولى، لا تزال نسبة كبيرة تأبى إلا أن تعيش بعقلية العُصور الوسطى، عصور ما قبل الثورة الفرنسية، بذهنية تنتهج أفكارًا متشبِّعة بالعداء والاختلاف الأعمى: "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، تتغذى على الأحادية، والقطيعة، وتنتهج أسلوبَ ولغةَ حوار متدنية، وتخلط بين الموضوع والشخص، فتسطِّح القضايا، وتُشعل العداوات، وتنفجرُ الأزمات من مُستصغَرِ الشرر، وليتهم أدركوا أنَّنا وإذا ما عرفنا كيف نُدير اختلافاتنا لتغير وجه التاريخ من حولنا، ولتفادينا كمًّا كارثيًّا من الويلات والمآسي والخسائر، ولصنعنا تاريخاً فارقاً.. إننا وللأسف الشديد نصنع لأنفسنا المآزق عن إرادة واختيار، ونختار عن عَمْد طرقًا محفوفة بالمخاطر، سواءً أدركنا ذلك من البداية أو لم نُدرك، وسواءً اخترنا ذلك أو فُرض علينا!!

ولعلَّ التسليم بأصل الاختلاف كسُنَّة كونية، وقانون إنساني، يستوجب منِّا تأقلُماً وقبولًا للفكرة من الأساس، وتكيُّفاً مع هذا المفروض ليس في الرأي وحسب، وإنما في الوجود الإنساني أساسًا، واعتبار الاختلاف حقًّا للجميع في إطاره الإيجابي، كي لا نعيش ازدواجية يحقُّ لنا معها ما لا يحق لغيرنا، وكعامل ثراء يُستفاد منه لخلق حالة من التنافس الإيجابي لتقديم الأفضل فكرًا ورأيًا، إذ وكلما كثُرَت الآراء وتلاقَحَت تهيَّأت سُبل النجاح والنماء، وزادت الكفاءات والطاقات، لكن يُحذر أن يكون الاختلاف ذريعة لإسقاط الآخر اجتماعيًّا وتشويهه لاعتناقه فكرًا لا يستهوي هذا أو يرفضه ذاك؛ فالمجتمعات الذي تنشد التطور تنظر إلى الموضوعات والقضايا الخلافية بعين إيجابية خالية من الشوائب، بعين مُتجرِّدة من الأنانية، بعين الموضوعية التي تضع المسائل في حجمها، ومن ثم بحث وتحليل ودراسة تفاصيلها وفق رؤى منطقية بعيدة عن التحسُّسات والمؤثرات الخارجية، فيكون النقد والاختلاف والنقاش والمحاكَمة للفكرة لا لصاحبها.

إنَّ القصَّة الشهيرة التي وَقَعتْ بَيْن الإمام الشَّافعي وتلميذه في أحد دُرُوس العِلْم، والاختلاف حول مسألةٍ، تَرَك على أثرها الطالب مجلسَ الشافعي غاضبًا، قبل أنْ يأتيه الإمام إلى بيته ليُذكِّره بأدب الاختلاف قائلًا: "يا بُني، لا تحاول الانتصار في كلِّ الاختلافات، فأحيانًا كسب القلوب أولى وأفضل من كسب المواقف؛ فلا تهدم الجسورَ التي بنيتها وعَبَرتها، فلربَّما تحتاجها للعودة يوماً ما.. يا بُني، اكره الخطأ دائماً ولكن لا تكره المُخطِئ، انتقِد القول واحترم القائل، فإنَّ مُهمتنا هي أن نقضي على المرض لا على المرضى".. هذه القصَّة وغيرها، تختصر أسسَ أخلاقيات الاختلاف الإيجابي الذي أولته شريعتنا عَيْن الرعاية، وتفرض علينا التأكيد مُجدَّدا على ضرورة أن لا تكون كتاباتنا لمجرد وضع النظريات والتأطيرات لأخلاقيات الاختلاف من الناحية اللفظية أو النظرية فحسب، بل أن تتحوَّل إلى واقع في السلوك، تترجمه علاقاتنا مع الآخرين، وقبل أن نتلمَّس من الآخرين الالتزام بها، يجب أنْ نتلمَّس من أنفسنا التزامًا أكبر بهذه الأخلاقيات حينما نختلف معهم.