خريجو التعليم العالي و الشعور الزائف بالنجاح

د. سيف المعمري

كيف نستطيع تفسير التناقض الذي يواجهنا باستمرار بين نسب النجاح في مؤسسات التعليم العالي وبين فشل كثير من الطلبة في اجتياز اختبارات التوظيف؛ التي تكون عادة غير معياريّة تعدها بعض الجهات على عجل؟ هل أصبحت هذه المؤسسات تقوم بصناعة شعور زائف بالنجاح عند قطاع كبير من الطلبة لا يلبث أن يسقط عند خوض أول اختبار، لا شك أنّ هذا الزيف له نتائج مدمرة على التنمية وعلى المجتمع والفرد نفسه، حيث يفقد التعليم دوره المحرك لصناعة التغيير في مجتمع بات يتفرج على تفاقم كثير من ملفاته الحيوية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وينتظر حلولا من السماء لها، وهيهات أن يكون ذلك بدون الأخذ بالأسباب؛ ومن ضمنها تجويد التعليم العالي وإصلاح مؤسساته ومناهجه، والضرب بشدة على أولئك الذين يعملون على تحويل هذه المنظومة الحيوية إلى منظومة لصناعة نجاحات زائفة يرفضونها لاحقا تحت مبررات متعددة فيعيقون التنمية عن تحقيق انطلاقتها، ويحرمون الوطن من مقومات قوته، ويجردون الفرد من سلاحه في مجابهة هذه المنافسة الشديدة في هذا العالم، ويجردونه من المهارات التي يحتاجها للوقوف صامدا معتمدا على ذاته حين لا تغلق كل الأبواب المعنية بتوظيفه في وجه، عندها يجد شهادة تحمل معدلا كبيرا لكن لا يجد التعليم الذي يوظفه في شق الطرق المغلقة.

إنّ صناعة النجاح الزائف سوف تستمر وستجد المدافعين عنها؛ لكن ستجد أيضا المناوئين لها، والناشطين لكشف الزيف الذي يعتريها، وعملية تحقيق الإصلاح هي عملية كما تعلمنا التجارب الإنسانية لا تحدث إلا تحت الضغط، ولأن السياسات التعليمية لا تزال ذات طابع ديكتاتوري في صياغتها وتنفيذها واستمراريتها لا تملك أي جهة تعطيلها أو نقضها إن أثبتت عدم جدواها تستمر هذه المؤسسات في تيسير طرق الوصول للنجاح الزائف، فالحكامة في شؤون التعليم لا تزال غائبة لا توجد أي جهة يمكن أن تقوم بها، ولذا ترى كثيرا من المؤسسات وبالذات الخاصة هو أنّ نجاح جميع الطلبة يعد أفضل حماية لوجودها وبقائها واستمرارية تدفق الطلبة إليها، ولذا تلجأ إلى ممارسات متعددة تقود الطالب إلى الشعور بلذة النجاح حتى لو كانت عملية التقويم لا تنبئ بذلك، فلماذا يحدث كل هذا ومن أجل ماذا؟ إحدى النقاط هي أن يشعر أيضا القائمون على هذه المؤسسات بنجاح زائف، ويشعر بارتياح نتيجة خداع الأرقام له، وما أكثر ما تخدعنا الأرقام.

لا شك أنّ الاستمرار في صناعة النجاح الزائف وإرساء ثقافة التساهل أمام الطلبة، والعمل وفق قاعدة دعه يمر.. دعه يتخرج، ودع رئيس المؤسسة يفخر بتخرجه، لا يقود إلا إلى تخريج جيش من الشباب المهمشين والمهملين لأنهم لا يلبون طموحات أي مؤسسة من المؤسسات التي أعدوا لها، ونتيجة لذلك يتحول هؤلاء الشباب إلى عبء كبير على مجتمعهم ودولتهم، ويصبحون رأس مال مهدور يعاني من البطالة واليأس، مما يعيق دوران التنمية وفق الخطط المحددة لها، وبدلا من أن يكونوا منجم الابتكار والإبداع والريادة، يتحولون إلى مصدر خوف يتطلب أنفاق مزيدا من الأموال لمكافحة الظواهر التي قد تظهر بينهم، فلما يقود التعليم إلى إعداد إنسان ذا نجاح زائف يكون خطرا على نفسه ومجتمعه؟ لما يقود التعليم إلى عبور الضعفاء إلى منصة التخرج؟

 لقد قادت مؤسسات التعليم إلى ما يمكن أن يسمى "التعليم المفرط في النجاح"، لأن أكثر من طرف يستفيد من ذلك؛ ففي المؤسسات التي تعتمد نتيجة تقويم الطلبة الفصلي لمقرراتها شرطا لتجديد عقود الأساتذة، حول ذلك العلاقة بين الأستاذ والطالب إلى علاقة نفعيّة حيث يمنح الطالب الأستاذ حتى لو كان ضعيفا تقييما مرتفعا مقابل أن يمنحه الأستاذ درجة مرتفعة، مما يقود إلى بقاء الطالب والأستاذ في نفس المؤسسة طالما أنّهم حافظوا على هذا التحالف النفعي بينهم، ومن المؤسف أن تقود مثل هذه العملية غير المنضبطة إلى خروج أساتذة جيدين من مؤسساتنا نتيجة عدم قبولهم بمثل هذه النهج أو إلى تصنيفهم بأنّهم غير جيدين وفق ما تسفر عنه هذه التقييمات، لقد حكى لي أستاذا شغل منصبا متقدما في إحدى الجامعات الخاصة قابلته في أحد المؤتمرات العالمية عن سبب إنهاء عقده وهو منح درجات النجاح لطلبة لم يحضروا معه في الاختبار النهائي للفصل الصيفي حتى يتخرجوا، فرفض أن يكون سببا في تحقيق نجاح زائف لطلبة سيقودان إلى زعزعة ثقة بقية الطلبة والمجتمع في المؤسسة التعليمية التي يجب أن تكون موضوعية لا تخضع لمعايير السوق وهدفه الرئيسي لتحقيق النجاح، مثال آخر على آثار هذا النجاح الزائف هو ما تقوم به مؤسسات تعليمية من البحث عن آليات لجعل طلبتها قادرين على المنافسة في برامج الدراسات العليا نتيجة الإفراط في تقديرات خريجي مؤسسات تعليمية أخرى.

 يبدو أننا أمام تعليم عال مفرط ومنفرد في كل شيء، يقود الطلبة إلى نجاح زائف أحيانا لكن لا يستطيع قيادتهم إلى المنافسة في سوق العمل أو في ريادة الأعمال رغم التقديرات العالية التي يتخرجون بها، والتي تجعلهم وأسرهم يعانون بعد انتهاء حفلة التخرج الزاهية التي تنظم لتأكيد أحقيتهم بالنجاح ومؤسساتهم، لقد حذر نادر حبيبي أستاذ الاقتصاد ودراسات الشرق الأوسط في جامعة برانديس من ذلك النجاح وقال إنّ خريجي الجامعات الذين لا يستطيعون المنافسة سيقبلون العمل في وظائف منخفضة ومتوسطة المهارات لا تحتاج إلى درجة جامعية حيث يعود للطالب إلى وضعه الواقعي قبل أن يلتحق بالجامعة، فلماذا لم تختصر مؤسسات للتعليم الطريق على هذا الطالب لكي يخرج لمطاردة لقمة العيش بدلا من البقاء سنوات على مقاعد الدراسة دون أي تطوير للمهارات والمعرفة التخصصية؟

بقي ثلاث سنوات وسوف نكمل عقدا لم ينجز فيه إصلاح حقيقي لمنظومة التعليم العالي، وسوف يكتشف الباحثون في هذا القطاع لاحقا أنّ كل التوصيات والمطالبات بالإصلاح تمّ ترحيلها إلى أجل غير معلوم، ولكن الحاجة للإصلاح لا يمكن القفز عليها حتى وإن تمت إعاقتها لسنوات، نعم ثمن ذلك كان باهظًا على التنمية مهما حاول البعض التقليل منه أو الالتفاف عليه.