23 يوليو.. عمانيون وكفى

 

نصر الحوسني

عندما كانت اللاندروفر الخضراء الداكنة بطربالها الغليظ تخب بجهد بين حجور جبال الحجر، تقود خلفها صويحباتها، وفِي بطونهنّ رجال اختلطت سمرتهم بأحلامهم، وسمتهم  برزانة سواعدهم هزيلة الحال، سمينة المأرب والمنال، تخضهم وعورة الطريق، وهي تعرج بهم بين القرى العطشى الساكنة بصمت ناسك، والحالمة بعهد جديد بفؤاد طفل سئم الانتظار، وأكله القلق على أم انطفأت، مزقتها الفاقة، وطحنها الفقر، وأهلكتها الفتن، سارت القافلة والسلطان الشاب خلف مقودها، تقرص إطاراتها أسنان الحصى الصلدة، كواشم أعور يثقب إطاراتها فيهبط الجميع وبيد رجل واحد يبعثون فيها الحياة، لتسير بهم.

فالطريق طويل والصعاب أكبر، وقلب السلطان الشاب مثقل بهموم وطن متأخر، وإرث إمبراطورية ذاب شحمها وبان عظمها، وقطعت أوصالها نصال من غُرر به من أبنائها، فانسلت تحت عباءة الضنك إلى ركنها الشرقي، وهي التي كان قد صاغ التاريخ تاجها من زمرد إفريقيا وألماس الهند وزبرجد فارس ولؤلؤ العرب، كهلت بجسد ملكة وصبرت بفؤاد أميرة، إلى أن أتاها الرجاء وتذكرتها السماء.

مضت سنون على شمس ثلاثة وعشرين يوليو ليست بالكثيرة في عدة أشهرها ولكنّها كبيرة في عتاد أيامها، فالمركبات تغيّرت وتعددت أنواعها وألوانها، والطرق تسفلتت وأمن حالها، وامتدت أكتافها، ودخلت الكهرباء في أوردة القرى الجبلية، وانقشعت الغيوم وزالت تجعدات الزمن من على وجه الملكة فخرجت على الدنيا بزهو حكيم وثبات جاسر، وعاد المهاجرون ورجع الآفلون، وانغمست أطواق الخناجر في قطاعاتها، وحملت المعاول، وسكنت الأفئدة، وبر بوعده السلطان الشاب، وازدانت هيبته وَقَارا، وعبر مرات كثيرة ذات الطرقات التي أطاعته يسرا وتعاقبت زيارة تلك القرى التي استقبلته أبا لجيل متعلم لا حدود لأحلامه ولا قيود لآماله.

وتلاحقت دوائر البناء الخمسية، تغيّرت الألوان وكبرت الأشياء، وجيل السبعين وسنان يا سنان وجرانديزر وسالي أصبح له شهادات جامعية وأبناء وديون وأملاك وشجون وربما أحفاد، وتحول الحصير إلى سجاد، والمندوس إلى خزانة، والكاتلي إلى سرير، والدكان إلى هايبر ماركت، وتعاقب على الغبيراء جيل لم يعرف بيوت السعف ولا المنامة ولم يذق ماء الجحلة، ويضيق نفسا إن أبطأت سرعة الواي فاي أو ازدحمت عليه الشوارع، وصارت له بيننا غلبة العدد وهو الذي انفتحت له طرق الدنيا الواسعة. ويستمر البناء ونحن على وشك أن نختم رؤية ٢٠٢٠ بما فيها من إنجاز وإيجاز، وعليها من تأخير وتأثير، مقبلون على أفق ٢٠٤٠ في عالم سريع التلون وماراثوني التغير، متداخل الحدود وملتوي الملل والأفكار، في منطقة تنّورية الحرارة وسريعة الاشتعال، اختلفت فيها مواقف القوم وتباينت بها اتجاهات خيامهم.

جنبنا الفكر القابوسي براكينها المتعاقبة وصراعاتها البائسة.. يخرج لنا ٢٣ يوليو ليذكرنا بأنفسنا ويعيد بِنَا التاريخ إلى النفيس من ماضينا وأساس عزتنا في حاضرنا؛ لذلك وجب تذكيرنا بألا ننغمس في وحل وسائل التواصل الاجتماعي، وأن نلتزم الحياد كما عرف عنا، فنحن عمانيون وكفى، لا ندّعي الكمال ولكن الزمن يصقل من اعتاد الأحمال الثقال.. بلادنا لم تخرج من جراب البترول وجذورنا أساساتها في رحم الأرض، لم نتبع أحد ولم نكن جزءًا من آخرين.

رأيُنا المُستقِل ثمرة سنون من التداخل الجغرافي والاجتماعي مع من حولنا، نحن الشجرة الأزلية التي يستظل بها القطيع، وتميُّزُنا السياسي الداخلي والخارجي من تسامح وحياد مكث في أرضنا فتشرّبناه من تربتنا، فأصبح فرعنا ثابت وأصلنا في السماء، فلا خوف ولا قلق، أشرعتنا عالية وسفينتنا تسير بثبات يراه الجاهلون بطءا، وبروية يحسبها الهائمون سكونا، وكل عام وعمان بخير وسلطانها الأب الإنسان بصحة وعافية.

nhosni72 @gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك