د. عبدالله باحجاج
أطلّت علينا خلال الساعات القليلة الماضية ذكرى الثالث والعشرين من يوليو المجيد، وتذكرنا هذه الإطلالة بالانطلاقة نفسها مكانا وزمانا، وشكلا ومحتوى، فكيف كانت بلادنا قبل الانطلاقة؟ وكيف انطلقت؟ وكيف قطعت مراحلها حتى أسست لنا دولة نراهن عليها الآن في عبور العواصف السياسية التي تشهدها المنطقة بين كل فترة وأخرى.
إطلالتها الآن، تخاطب الوعي العماني، كل أنواع الوعي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي.. لكي يزداد أكثر حصانةً ومتانةً في الصمود والمقاومة، والتمسك بثوابت الدولة، وتعزيز مفهوم دولة القانون الذي هو خيار الاستدامة الآمنة، في ظلّ ما تشهده المنطقة من تحولات ومتغيرات بعد أن حطمت ثوابتها بأيديها، والنتيجة، قلب عالييها سالفها.
إذا ماذا يمثل لنا مجيء حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المفدى - حفظه الله ورعاه- للحكم في الثالث والعشرين من يوليو عام 1970؟ فلنطرح على أنفسنا هذا التساؤل الآن بالذات؟ ولتكن إجابة كل واحد من مع نفسه كما تصورها قناعاته الخاصة بعيدًا عن التمجيد- وإن كان مستحقا في حالتنا العمانية- لكننا نُغلَّب هنا منطق العقل في المرحلة الراهنة، من هنا، فنحن نحتاج لهذه الإجابة الذاتية العقلانية التي لا يختلف عليها اثنان.
ولن نهتدي للإجابة العقلانية، إلا إذا خضع تفكيرنا لمنطق المقارنات بين أوضاعنا ما قبل السبعين، وأوضاعنا ما بعدها، والوقوف الآن عند ماهية المنجز الذي يجب أن نحافظ عليه بكل ما أوتينا من قوة، ومن ثم الأحرى بالحكومة كجهة تنفيذية، وكصانعة قرار، أن تكون الأولى برعايته، وتمتينه بسياج الحصانة المالية والاقتصادية، عوضا عن أن تكون سببًا في المساس به، ربما لوجود إشكالية عميقة في الوعي السياسي، وهذا ما يستلزم منا استنطاق الإجابة هنا بصوت مرتفع.
فمنظورنا، كان مجيء حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس- حفظه الله- يوم الثالث والعشرين من يوليو، كأنوار الهداية السياسيّة تقود الدولة والمجتمع إلى سلوك الطريق الأصح في العتمة السوداء التي دخلتها بلادنا خاصة والمنطقة عامة، وكادت تغطي سوادها بشموليتها المكانية والزمنية، عتمة شطرت البلاد بين داخل وساحل، وبين شمال وجنوب، فجاءت الأنوار لتوحدها تحت مسمى وطني واحد، هو سلطنة عمان. عتمة جعلت أفراد الأسرة الواحدة يحاربون بعضهم البعض، فجاءت الأنوار لتوحد هذه الأسرة، وتحافظ على كيانها، وترفع شعار التسامح والتنازل عن حقوق الدم التي استباحتها العتمة السوداء، وتوجتها بشعار "عفا الله عما سلف"، فوحّدت البشر والتراب، وعلت من شأن المصير الواحد، والشأن المشترك، في إطار دولة جامعة، وسلطة واحدة، أعدائها في الداخل (صفر) وفي الخارج (صفر)، كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق.
من تجليات هذه الأنوار في واقعنا المعاصرة، تأسيس قوة ديموغرافية، متناغمة ومنسجمة في بنيتها الأيديولوجية والاجتماعية، ومتوحدة في انتماءاتها وولاءاتها، وقد وصفناها في عدة مقالات قديمة بالقوة النووية؛ بحيث تصبح الآن أحد أهم قوة غير تقليدية للدولة العمانية المعاصرة. وعبرت هذه القوة عن نفسها بصورة طوعية قديما وحديثا في عدة مناسبات؛ أحدثها، في أول إطلالة لعاهل البلاد- أبقاه الله- بعد نجاح رحلته العلاجية، وكم وقفت هذه الديموغرافية في وجه الخارج كلما تمس بلادنا في رموزها أو كيانها المعنوي.
وما يميزها - أي الديموغرافية العمانية- شعورها بامتدادها المتجذر في عمق الدولة العمانية، وارتباطها بحضارة إنسانية عريقة، تستمد منها شخصيتها وثقافتها، كما أشرنا في مقال سابق. لذلك، فهى محكومة بمنظومة ولاء سياسي وانتماء جغرافي، عميقين جدا، مما يجعل المحافظة عليهما من أولى الأولويات الوطنية، مهما كانت الظروف التي تمر بها بلادنا.
وكنا قد طرحنا في مقال سابق التساؤل التالي: كيف نحافظ على مكوننا الديموغرافي - أي قوتنا النووية - في عصر الضرائب؟ والآن نضيف عليه تساؤلا آخر ومهما جدا، وهو كيف نحافظ عليه في ظل الأزمات والمخاطر الجيوسياسية الجديدة والمقبلة خاصة وأنّها تقف الآن على إحدى بواباتنا الحدودية؟
وحتى لو لم تكن تلك الأزمات والمخاطر أصلا، فالموقع الجغرافي لبلادنا من حيث وقوعها داخل محيط جغرافي متصارع وله أطماع ابتلاعية- جغرافية ومذهبية- قديمة وحديثة، يجعلنا نعمل باستمرار على تحصين قوتنا النووية من أية استهدافات إرادية أو غير إرادية.
والتساؤلان سالفا الذكر، لابد أن يشكلا الشغل الشاغل للحكومة، فهناك توجه كبير نحو فرض الضرائب، واستمرارية جامدة في وقف الترقيات والتوظيف.. وكلها سياسات وإجراءات تمس عمق مكوننا الديموغرافي في ظرفية المخاطر والأزمات الجيوسياسية الجديدة؟
وإذا كانت تلكم رسالة موجهة للحكومة، فإنّ الرسالة الثانية والمهمة، موجهة أيضًا لشبابنا، فالعلم بالمنجز الحقيقي لنهضة الثالث والعشرين من يوليو، لا يمكن قياسه بالجانب المادي، كجسور وعمارات، وإنّما قياسه بما سبق ذكره، وهو تأسيس دولة جامعة للمكون الديموغرافي، ومتعايشة مع متعددها الفكري، ومنصهرة في شأنها المشترك، فما تحقق في بنية الدولة والمجتمع، يجب أن نعض عليه بالنواجذ، وهذا توصيف إسلامي نجد له دلالة بليغة في شأننا العماني في ضوء ما سيواجهنا مستقبلا من تحديات داخلية وخارجيّة.
ندعو الله عز وجل أن يحفظ سلطاننا المفدى، ويمن عليه بموفور الصحة والعافية والعمر المديد، وأن يديم على وطننا الأمن والاستقرار.