د. صالح الفهدي
في زيارة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد إلى السلطنة، لم ير البعض لوجوده قيمة تذكر نظرُا لأنّه ترك السلطة عام 2003م، وقلّل من أفكاره التي سيطرحها، واستكثر المدح على شخصه وإنجازاته التي شهد لها الخصوم قبل الأصدقاء..!
هذا الموقف ليس بالغريب على الذين حملوا مثل هذه الأفكار لأنهم ينتمون إلى ثقافة ترى "انتهاء صلاحية" كل متقاعد..! ثقافة عطّلت قدرات البشر، وأحصتهم في قوالب من الأنظمة الجامدة التي لا تقبل التغيير والتبديل فضلا عن الابتكار والابداع..!
لقد غاب عنهم – بحكم تأثير الثقافة السائدة- أن مهاتير محمد لا يزال وهو في مستهل التسعينيات من عمره يستقبل الوفود في مكتبه بأبراج "بتروناس" التي أنشأها لقيمة نفسية وفكرية للارتقاء بشعب الملايو قبل أن تكون صروحا مادية، وغاب عنه أن هذا "المتقاعد" الذي يحسبه بعيدا عن السياسة والاقتصاد وجاهلا عن إدراك متغيراتها قد أسسّ حزبا معارضا وهو في عمر (91 عاما)..! غاب عنهم أنّ ذلك الذي خرج من المنصب ولم يخرج من جلدته وفكره وتصوّراته قد وضع قبلها خطة تنموية حتى العام 2020 يتابعها بكل اهتمام..! غاب عنهم أن بعض قادة الدول من أصحاب الأفكار الخلاّقة قد اتخذوه مستشارا لهم..! وغاب عنهم أن الدول لا تتقدم ولا تنهض إلا بالاستفادة من تجارب العظماء (المختلفين)..!
لست هنا في معرض دفاع عن قامة واحد من أعظم القادة السياسيين والاقتصاديين الآسيويين في التاريخ، وإنما أفعل ذلك لدفع مفاهيم ثقافة معيقة في مسارات التقدم والحداثة، ببلادة الأفكار، وقدم المفاهيم التي عطّلت الابداع والانفتاح على التجارب..!
كفانا من ثقافة ترى قيمة للإنسان إن كان متربعا في منصب حكومي، فهو إن كان عليه، تحوّم عليه القوم، وأعلوا شأنه، ورأوه أذكى من في الأرض، وأخبر من فيها، وأنبل من عليها..! وإن هو تخلّى عن المنصب فإن الخبرة قد سقطت، والصلاحية قد انتهت، وكل ميزاته كإنسان ضعفت وهزلت..!! كفانا من هذه الثقافة التي لا تقيم وزن الإنسان على علمه، وتجربته، وفكره، ومبادئه، وخلقه، وتقيّمه بالزائل من الألقاب، والذاهب من المناصب..!
كفانا من ثقافة تحضّنا على التقوقع على أفكارنا، وأنه من العبط أو العبث أن نستفيد من تجارب البشر الآخرين أصحاب التجارب والخبرات والمبادرات والإنجازات.. فهذه الثقافة لا تشكّل إلاّ دوران الأفكار ذاتها حول نفسها، ولا تخرج من فضائها المعرفي الخلاّق بفعل الانفتاح على العقول المبدعة الأخرى..! هذه ثقافةٌ لن نجني من ورائها إلاّ أفكارا عقيمة غير ذات جدوى لأننا أغلقنا العقول عن الاستفادة من عقليات لها وزنها في الحقول المعرفية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا وغيرها، وراهنا على ما نمتلك من أفكار وقدرات وحسب..!.
هذا الكلام لا يتناقض مع منح الثقة للذات والقدرات الوطنية بل ينسجم معها لأنه ينصبّ في ذات المسار الساعي إلى تقوية نظرتها، وتطلعاتها نحو المستقبل بتطعيمها بأفكار وتحليلات سديدة ترفدها بها عقولٌ واعيةٌ، مبدعة.
كفانا من ثقافة تحسب التقاعد نهاية الإنسان ككائن له فعله التاريخي، ومنجزه في تقدّم المجتمعات، فكأنّما تقطع عنه شرايين العطاء من جسد الحياة..! لهذا علينا أن نتخلص من الفكرة التي تصاحب لفظة "التقاعد" لأنها قد أنشأت ثقافة ملوّثة، سقيمة، باعتبار أن الإنسان سيظلّ هو ذات الإنسان الفاعل في سياق التاريخ حتى موته وهو ما يعني توقفه المادي رغم أن أعماله ومنجزاته وعطاءته لا تموت معه بل تحيا إلى أن يشاء الله.
مجتمعاتنا بحاجة إلى إعادة تشكيل في مفاهيم متقادمة، لا يعترف بها النسق العصري، ولا يمكننا الركون إليها أو الاتكاء عليها، إن كنّا ننوي فعلا الشروع نحو مستقبل متعدد الفرص، منفتح نحو موارد مستدامة، غير معتمدين على مورد ناضب واحد.
لقد تبنّى مهاتير محمد سياسة "النظر شرقا" في مستهلّ سياسته ويقصد بها النظر إلى اليابان وكوريا الجنوبية والصين للاستفادة من المقوّمات التي أسهمت في نشأة اقتصادها وقوته. فما الذي يضيرنا أن نتبنّى نحن أيضا سياسات مشابهة لننظر إلى آخرين، فهكذا فعلت الدول التي تقدّمت مثل سنغافورة، يقول كيشور محبوباني وهو دبلوماسي سنغافوري سابق: "قال لي الدكتور جو كينج سوي Goh Keng Swee لا يهم ما هي المشكلة التي تواجهها سنغافورة، هناك أحدٌ ما، في مكان ما قد أوجد حلا لهذه المشكلة".
وفي نطاق هذه التوجّه فإنه لا يجب أن ينظر إلى الاستفادة من الآخرين على أنها إعراضٌ عن الكفاءات الوطنية وما تتمتع به من إمكانات وقدرات، وإنّما تعضيدها بالحكمة التي تأتي من ثقافات متقدّمة، ورموز شهد لها بالعطاء، وقامات لها بصمات واضحة في التاريخ. بيد أنه لن يغنينا أبدا التّغني بالحكمة، أو عقد الندوات أو استضافة أصحاب الخبرات إن لم تكن لدينا الإرادة الفاعلة لتطبيق الأفكار، فما قيمة فكرة لا تجد طريقها إلى التطبيق، وما قيمة تطبيق لا تدفعه الإرادة، وما قيمة إرادة غير متوقّدة باستمرار...؟!
نعم نحن نمتلك الكفاءات والقدرات ولكننا لا نستغني عن الخبرات التي تنظر إلى ذخائرنا ومواردنا نظرة متجرّدة من أية مؤثرات، كما لا يجب أن نستغني عن موارد بشرية خارجية نرى فيها القدرة والكفاءة حتى في مناصب تنفيذية رفيعة إن كان ذلك في مصلحة الأوطان.
إن كل أمّة تسعى إلى امتلاك الإمكانيات الحقيقية للنهوض والسير بثقة نحو التطوير والتنمية فإن عليها أن تتجرّد من بعض الأفكار المهيمنة عليها، وأن تنصت بعمق إلى مصادر التجارب الخلاّقة الماثلة أمام العيان، وألا تترفّع عن الاستفادة مما قدّمه الآخرون بحجّة أن لدينا ما هو أعظم، فالمسلمون الأوائل ترجموا في بداياتهم لثقافات متعددة في شتى العلوم دون أن يتقوقعوا قائلين: لدينا ما هو أعظم؛ كتاب الله وسنّة نبيّه، بل رأوا في التثاقف الحضاري، والتلاقح الفكري ما يدفعهم للعطاء من حيث انتهى الآخرون، ولو أنّهم استغنوا بأفكارهم لبدأوا من حيث بدأ الآخرون أو ربّما قبله..!
المفاهيم التي نحن بحاجة إلى تبنيها في هذا الإطار هي تغيير النظرة إلى الإنسان كمورد بشري متجدّد غير ناضب بسبب الخروج من المنصب، وأنّ صلاحيته كعقل مفكّر لا تنتهي إلا بعطل ذهني أو جسدي ما. وهذا يدفعنا إلى تغيير نظرتنا لمفهوم التقاعد بمفاهيم أرقى، مستفيدين بذلك من الغرب الذي استفاد من الخبرات والكفاءات المتقاعدة لتكليفها بمهام وزارية وواجبات وطنية.
نحتاج إلى تغيير منظورنا إلى الاستفادة من كل صاحب خبرة مشهودة تنفعنا للاستفادة من مواردنا وترشدنا إلى تسخير قدراتنا وإمكانياتنا على ألا نقصر أنفسنا في حدود المعرفة بل أن ننطلق بالأفكار الخلاّقة إلى ميادين العمل والتطبيق دون تردد.
نحتاج تغيير رؤيتنا نحو الطرح الناقد البنّاء إذ لا يمكننا أن ننظر إليه بتوجّس وريبة فالمجتمعات لا تتطور ولا تنمو إلاّ بالأفكار المستحدثة والرؤى الخلاّقة وعلينا الاستفادة من النقد الواعي المخلص.
المجتمعات المتجددة ثقافيا هي وحدها التي تستطيع أن تتكيّف مع المتغيرات، وتنسجم مع الأهداف العليا التي تأمل تحقيقها.