د. عبدالله باحجاج
تفاجأنا يوم الأربعاء الماضي بخبر منسوب إلى مصدر مسؤول بوزارة المالية؛ يتحدَّث فيه عن خلل هيكلي بالموازنة العامة للدولة، وبسببه، ستمضي الحكومة في خطتها بتطبيق مزيد من الإجراءات الاحترازية.. والسؤال هنا: ماذا ظل من احترازات لم تُقدِم عليه الحكومة حتى الآن؟
هُناك احترازات قد اتخذت وأخرى معلومة سترى النور قريبا، فماذا بعدها؟ إذ لا يمكننا فهم خبر المصدر إلا في سياق التهيئة النفسية الاجتماعية لما هو قادم من سياسات مالية وإجراءات تمس المنظومة الاجتماعية؟ في وقت كُنَّا نتوقَّع فيه أن تتراجع الحكومة عن تشديد قبضتها الاجتماعية بعد تحسن أسعار النفط، وبعد العوائد المالية التي تجنيها من رفع الرسوم واستحداث أخرى، ورفع الدعم عن خدمات أساسية وسن ضرائب ووقف الترقيات والتوظيف.
وهنا، ينبغي أن نتساءل عن هذا الخلل الهيكلي بالموازنة العامة الذي يتحدَّث عنه المصدر، ما هى ماهيته وأسبابه؟ وكيف تفكر الحكومة في حله؟ وهل تتوافر للحكومة بدائل أخرى للحل من خارج المنظومة الاجتماعية؟ تظهر لنا هنا الشفافية، قضية في حد ذاتها، ولن نتوقع الشفافية في مراحل تنفيذ الموازنة بعد تغيبها في مراحلها الأولى، خاصة مناقشتها داخل مجلس الشورى، رغم أنَّ المرحلة الوطنية تُحتِّم على الحكومة أن تتخذ من مبادئ الشفافية والمساءلة عنوانين أساسيين لإقناع الرأي بموضوعية وصدقية الصرف المالي على النفقات العامة؛ وذلك من خلال نشر تقرير ربع سنوي للموازنة، وكذلك النشر الدائم لكافة التقارير المالية والحساب الختامي، علما بأنَّ النظام الأساسي للدولة -خاصة المادة (58) مكررا (31)- ينصُّ على علانية جلسات كل من مجلسي الشورى والدولة، والاستثناء السرية في حالة اتفاق مجلس الوزراء مع أي من مجلسي الشورى والدولة، وسرية موازنة 2017 قد جاء بطلب من مجلس الوزراء، وانصاع له مجلس الشورى حتى قبل وصول طلب السرية الحكومي لمجلس (يُراجع تصريحات رئيس مجلس الشورى في 14 نوفمبر 2016).
إذن؛ لماذا عطَّل مجلس الشورى مبدأ الشفافية في هذه الموازنة أثناء مُناقشتها مع وزير الشؤون المالية؟ وبذلك أسهم مجلس الشورى في تعطيل الشفافية، والآن في غياب المساءلة، مهما كانت المبررات كالأزمة المالية الراهنة، بل العكس، بحيث أصبحت تحتم الشفافية، وتفتح كل أبوابها، لأن موازنة الدولة قد أصبح يطلق عليها "موازنة المواطن" -مُسمَّى مُقتبس- لكننا نستفرد هنا بتبنِّيه من منظورين، وليس من منظور واحد؛ فالموازنة في جانب أساسي منها هى وثيقة تحديد احتياجات المواطنين من التنمية، وتحدد ملامح مستقبلهم، والجانب الآخر لها والمهم، والجديد، أنها أصبحت الآن -أي الموازنة- يُسهم كل مواطن في تمويلها من خلال رفع الرسوم ورفع الدعم الحكومي، وفرض الضرائب، وهناك اعتبار آخر ومهم يدلل على أهمية الشفافية، وهو إدماج الاقتصاد العماني والمالية العامة فى الهيكل الاقتصادى العالمى، الذى ترعاه مؤسسة صندوق النقد الدولى، ومن هذه الاعتبارات، تصبح الشفافية حقا من الحقوق الأساسية للمواطنين، ولا يَنْبَغي أنْ تُنَاقش داخل غُرف مُغلقة، وأنْ يكون تنفيذها شفافًا، وتخضع للمساءلة الدستورية والمجتمعية، والرقابة والمساءلة الاجتماعية "الشعبية" التي لم يعد يمثلها مجلس الشورى فقط، ليس من منظور ما سلف ذكره، بل في ظل اتجاهات حديثة، تتبنَّى شراكة حكومية مفتوحة، تجمع البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني -الفاعلة- وليس تلك التي ارتمت في أحضان السلطويين؛ فالمرحلة الراهنة وحتمياتها تقتضي إشراك المؤسسات المحلية ليس فقط في التحضير وصناعة الموازنة، بل وفي متابعة تنفيذها عبر مراحلها المختلفة، وعليها -أي المؤسسات- التعرُّف على طريقة طرح العطاءات، وكيف تتم الإحالة؟ وهل هناك شفافية في الإحالة؟ وهل كانت الأسعار حسب القيمة المقدرة للمشروع؟ وفي حالة تأخر المشروع عليها أن تعرف الأسباب الحقيقية...إلخ وهذا النوع من الشراكة المفتوحة مع الحكومة، سيضمن لنا الشفافية والنزاهة، ومن ثم سيخلُق الرضا الاجتماعي لموازنات الدولة وخططها التنموية، فمتى سنودِّع السرية؟!
المادة (13) من الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد تربط السرية بالفساد، وتعتبر الشراكة الحكومية المفتوحة أهم ضمانات المحافظة على المال العام، وبالتالي فإنَّ الشفافية تعد أهم رهاناتنا لمواجهة مرحلة التغييرات الشاملة التي دخلتها بلادنا على خلفية الأزمة النفطية وتوجهات الحكومة نحو صناعة مصادر مستدامة، الغالب عليها الآن الرسوم والضرائب.
هنا ينبغي أن نضع تصريح المصدر بوجود الخلل الهيكلي في موازنتا عام 2017، ضمن السرية التي لا تعلمها سوى الحكومة، وربما القلة فيها، وهذا لا يستقيم مع ماهية المرحلة الراهنة وآفاقها المستقبلية؛ فإعلام المجتمع بوجود الخلل ليس كافياً، بل لابد من توضيحه وإشراك المجتمع في حله، والحل الذي يحافظ على الاستقرار في بلادنا على المدى المتوسط، لن يكون في تحميل المجتمع ما لا يتحمله أو يكون في رفع منسوب عدم الرضا على معالجات المرحلة، خاصة وأنَّ المجتمع لديه من الوعي ما يُقر بخطأ أو صواب التوجهات وسياساتها المالية؛ فمن الخطأ الاستمرار في تطبيق خطة الإجراءات الاحترازية التي ترهق كاهل المواطن في ظل الاحتفاظ بجهاز إداري ثقيل على موازنة الدولة يستنزف أموال الدولة؛ سواء بعدده أو بصلاحياته المتداخلة والمعرقلة، وكذلك وجود صور عديدة للهدر المالي؛ أبرزها: عدم تهيئة الهيكل الإداري والحكومي لاستغلال الموارد المالية الراهنة، فكيف بموارد الضرائب المقبلة، كضريبة القيمة المضافة، ومن بين الصور كذلك: تأخر تنفيذ المشروعات العملاقة وتكبد خزانة الدولة ملايين الريالات، وشراء أجهزة ومعدات لا يتم استغلالها إلا بنسبة 20%، وهى تكلف الملايين، وبعضها في المخازن، وكذلك تأجير أملاك الدولة بأبخس الأثمان لمتنفذين كبار، وتسليم أراضي الدولة لمستثمرين محليين وأجانب "بدون مقابل"، ولم يستثمروها حتى الآن، أو توقف العمل فيها -افتلقوت وجزيرة السودة في الحلانيات أنموذجا- واستئجار مبانٍ لجهات حكومية لنفع خواص الخواص أو لدواعي المظهرية وليس الحاجة الفعلية...إلخ صور كثيرة وعديدة لهدر المال العام، فكيف نتطلَّع لحل الخلل الهيكلي للموازنة؟ بل كيف نواصل الضغط على المواطنين في معيشتهم وفي مستقبل أبنائهم في ظل استمرار هدر المال العام؟
كان المواطن العادي يتوقَّع أنْ تحقق السياسات المالية والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة منذ منتصف عام 2014 وحتى الآن التوازن المتفائل لموازنة الدولة، لا استمرار الخلل المالي الهيكلي، خاصة مع استقرار أسعار النفط عند عتبة 50 دولارا لسعر النفط، فكيف لو ظلت الأسعار عند 30 دولارا؟ وكان يتوقع هذا المواطن خبر التراجع عن وقف الترقيات والتوظيف، ووضع حد لجموع ارتفاع أسعار الوقود.. لا سماع الاستمرار في تطبيق خطة شد الحزام على البطون؛ إذن، لا يُمكن الاستمرار في هذه الخطة في ظلِّ عدم تغيير البنية التقليدية للجهاز الإداري ووحداته المتعددة والمتضاربة الصلاحيات، والتي تستنزف موارد الدولة. هنا، تكمُن الخطوة التالية التي ينبغي أن تعمل عليها الدولة لتهيئتها لمرحلة الدولة الجديدة، ولوقف هدر المال العام، وما عداها يسير خارج التهيئة العامة للدولة في مرحلة داخلية وإقليمية وعالمية مُتسارعة التطورات، تَتَلاقي فيها التحديات الداخلية مع مخاطر الجيوإستراتيجية الإقليمية على وجه الخصوص التي أصبحت تغيِّر من ملامح الخارطة الإقليمية المتعارف عليها تاريخيا، فهل هناك من يقرأ مخاطر موازنة عام 2017 مع المخاطر الإقليمية؟!!!