الاعتراف بالتقصير .. الحلقة المفقودة

هلال بن سالم الزيدي

تبدو مسألة الاعتراف بالتحديات التي تواجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية من المسائل التي تتأزم حولها المصداقية، لذلك يأتي المدافعون عن استمرارية "المنصب" لدحض كل ما يمت بصلة إلى وجود بصيص أمل من الاعتراف نحو ما يثار من قضايا تمس المجتمع، ولتقريب المعنى فإنّه لا يوجد رأي ورأي آخر لتضع الجهات بمختلف مسؤولياتها ما يثار في خانة النسف ليصل إلى وصمه "بالكذب" الذي يهدف إلى إثارة الشكوك نحو منهجية التعامل التي تؤدي تلك الجهة واجباتها.

هذا ما بدأ ينعكس في الآونة الأخيرة على ما يكتشف من تجاوزات في السلع الاستهلاكية، فعلى الرغم من التحاليل المخبرية التي تكتشف التجاوزات المسموح بها، وكذلك انتهاء صلاحيات كثير من السلع؛ فإنَّ الجهات ذات الصلة تنبري لتُلقي بتلك القضايا في سلة المهملات، فتعدو في إبراز الجهود والنجاحات التي تعطي مؤشراً بأننا نسير في الاتجاه الصحيح، ولا نقر أو نحترم مبادئ الاعتراف مهما كان ذلك مكلفًا في حياة البشر.

كيف لنا أن نؤسس لثقافة الاعتراف؟ هذا سؤال مُلح في الوقت الراهن، ولعلنا نستطيع الإجابة عنه إذا وضعنا المصلحة العامة هدفنا وغايتنا، وبالتأكيد مع التعويل على قوة الجهة الرقابية التي عليها أن تُغيّر من منهجيتها نحو  فرض رقابة صارمة لا تقبل التسويف أو طلب الإيضاح فقط من أيّ جهة تتهاون في تنفيذ دورها على أكمل وجه وهنا الإشارة إلى تطبيق القوانين الرادعة حتى لا تصبح العملية مجرد أدوار تؤدى فقط مع انعدام الجودة التي تحقق التكافل الاجتماعي، وهذا يقودنا إلى أنَّ الاعتراف كفلسفة هو قيمة من قيم الإخلاص، ولا يعتبر ضعفا أو تهاونا لأنَّ أي اجتهاد بشري مشوب بالأخطاء من أجل تحقيق النجاح.

إنني استغرب كثيرا من تصرفات المسؤولين في العديد من الجهات الحكومية عندما يلجأون إلى التخندق في خانة النفي،  فتُجيّش تلك الجهات كل شيء لديها لتلتف على ما يُثار في واقع الحياة، لتطبق ثقافة النفي فتصف الأفراد أو المؤسسات بأنهم غير فاهمين ولا واعين، والأدهى من ذلك عندما تستخدم تلك الجهات الإعلام بقاماته وهاماته ومختلف وسائله، فتكون ردود تلك الجهات في كثير من الوقائع التي تحتاج إلى تفسير "كمن يدور حول الحمى" ومبنية على جمود القانون وبرؤية تجعلها تحقق انتصارا لموقفها على الرغم من تعارض ما تدّعيه مع الحقيقة، وبالتالي تتسع فجوة الخلاف وتفقد مصداقيتها في المجتمع.

لقد أصبحت المجتمعات واعية بما يدور حولها حتى مع ضمور صوتها عبر التكتلات التي تمثلها، ولقد أشرت في مقالات سابقة إلى أن الثقة أضحت معدومة في قوة صوت المجتمع، وهذا معترف به وأصبح ظاهرة نعاني منها في القطاع البرلماني، وهذا أفضى بدوره إلى وجود تناقض صارخ في العمل المؤسسي المتمثل في منظومة الجهات الخدمية، ومع اتساع الفهم والوعي الاجتماعي لتلك الممارسات التي تقوم بها الجهات فإنها تصر بتكبر على أنها تقوم بدور "باتمان" وتتغنى في كل المحافل بما تقوم به، حتى مع وضوح المعنى المراد منه بين أفراد المجتمع.

إننا بحاجة ماسة إلى توظيف الاعتراف بالحقيقة حتى لا تتراكم المشاكل لتكون وبالاً يستنزف طاقاتنا ويؤثر على بناء الأجيال القادمة، ولعل ما يحقق ذلك هو شعور الموظف/ المسؤول في مختلف الجهات بأنه يمارس واجباً خدمةً للمواطنين، ولا يمكن تحويل تلك الخدمة إلى كرم يتكرم به منًا وأذى .

ليس من المنطق أن نعيش في منظومة ملائكية لا تعترف بالخطأ، لأننا منظومة بشرية وكل تاريخها يُدلل على أنها خطاءة وتوابة في ذات الوقت، ولا يمكن أن يكون الاعتراف بالتقصير وصمة عار في الكيانات البشرية وإنما ارتقاء إنساني من الواجب بلوغه حتى نستطيع دخول هذه المنظومة حقًا.

لا نُراهن على وجود مسؤول مثالي حتى وإن أردنا أن نزرع ذلك في تربية أجيالنا إلا أنَّ الواقع يدحض ما نقوم به لأننا لم نعد منفصلين عما يدور حولنا، فالعالم قرية واحدة شئنا أم أبينا، لذلك نحتاج إلى يقظة قوية تُخرجنا من غفوتنا التي جرعتنا خسائر اقتصادية كبيرة، حتى أصبح المجتمع منزوٍ يبحث عما يسد به صفير المعدة وإن كان ذلك الغذاء ملوثاً أو فاقدًا لصلاحياته الزمنية؛ واعتقد بأنَّ هذه هي مرحلة ضمور الحضارات وأفولها.

لماذا لا نعترف بتأخرنا؟ لماذا لا نكون واقعيين في ردودنا؟ لماذا نتمسك بشهادات الآخرين بأننا مسالمين مع غياب حقوقنا البسيطة؟ لماذا نقايض الأخطاء بالأمن والأمان؟ لماذا لا نقيّم قطاعاتنا الإنتاجية بعقلانية ومصداقية؟ تأكدوا بأنَّ الأجيال القادمة لا تغفر لكم خطاياكم مهما حاولتم دس رؤوسكم في الرمال.

همسة:

لا أعتقد بأن المجتمع يتأثر بقليل من المبيدات ترسبت على "بطيخة" لأنّه يحمل جينات ضد المبيدات.. وجينات أكبر ضد أي سلعة تجاوزت تاريخها.. كم نحن عظماء "ما يهزك ريح"!

[email protected]