المقاعد فارغة.. عمان والمشهد الثقافي

عزان المعولي

المقاعد فارغة رغم أنّ الساعة تجاوزت موعد البدء، والحضور الذي بالكاد يملأ السطر الأول من القاعة الكبيرة ليسوا كلهم من جمهور الثقافة وإنما معظمهم من المشتغلين بتنظيم الفعالية الأدبية، "لم أتوقع هذا الفراغ الكبير في المقاعد"، قال لي صديقي الشاعر وضيف الأمسية الذي جاء ليحيي فعالية أدبية بمناسبة اليوم العالمي للشعر وعلامات الإحباط تملأ قسمات وجهه، السؤال الذي يتبادر للأذهان: هل نحن أمام انحدار للمستوى الثقافي في الساحة العمانية أم أنّ الموضوع ينبغي دراسته من زوايا منهجية أكثر تقاربا مع الواقع الثقافي في سياق الزمان والمكان بوصفه حتمية تفرض عليه المعطيات الواقعية حكما آخر.
كمقارنة للمستوى الثقافي في سلطنة عمان بين الأعوام السالفة وبين واقعنا اليوم فالملاحظ هو ارتفاع النسبة الكمية من الإصدارات العمانية من حيث العدد، الاهتمام الثقافي ومحاولة الكتابة تتفوق عن السابق كحضور في مواقع التواصل الاجتماعي الذي هو أشبه بثورة أدبية وثقافية على مستوى الكتابة والحس الشاعري والروائي والرغبة العارمة في اقتحام حيز الثقافة والفكر، الإقبال على الكتاب الورقي والشبكي ملفت وقوي من خلال إحصائيات المعارض ودور النشر، صحف ومكتبات دخلت في السلك الثقافي بحرفية ومهنية جيدة، التجمعات الأدبية والمجالس الشعرية والأمسيات الثقافية أعلى حجمًا في هذه الفترة الزمنية من سابقات الأعوام، لكن المقاعد لا زالت شاغرة من الجمهور، لا يبدو الخلل إذن في انحدار معرفي أو تراجع ثقافي بقدر ما هو خلل في المنهج الذي يجدر من خلاله دراسة الأسباب الواقعية ومحاولة تفاديها مستقبلا.
لا يبدو المثقف الحديث قادرًا على الاستغراق في ندوة أو أمسية من ساعة أو ساعتين فهو غارق في تطبيقات التواصل الاجتماعي وسط فيض من المعلومات التي يستغني بها عن الحضور الواقعي، الشبكة المعلوماتية استحوذت على الكتاب الورقي والفعاليات الواقعية وخلقت شخصيات ثقافية افتراضية تمتلك جمهورا عريضا من المتابعين، عصر السرعة يغري بالعجلة في المعرفة وفي استساغة المعلومة السريعة، مع ذلك فالمثقف الشبكي أو الحداثي السريع يمكن إغواؤه بالحضور الحقيقي لواقع الثقافة والفكر إذا ما كانت إغراءات الحضور متكاثفة لتتناسب مع طبيعته المتطورة، هنالك سبل تنجح في تحفيز الجمهور الثقافي على الخروج من عزلته الافتراضية ومشاركة الواقع التفاعلي مع المثقف والكاتب.
من أهم أسباب الحضور الفاعل في الأمسيات والندوات هو الإعلام الجيد والمسبق بوقت متناسب مع حجم الفعالية، ضرورة استغلال تطبيقات التواصل الاجتماعي للفت الانتباه لأهمية الفعالية وتحفيز المتلقي للحضور من خلال عرض الجدول المتاح للأمسية وطرح عدد من الوسائل المصاحبة والتشجيعية للحضور وتوفير وسائل نقل من المؤسسات التعليمية بتنسيق مبكر وإعلان مسبق، على المؤسسات الراعية لهذه الندوات والفعاليات أن تكثف من جهودها كخلية واحدة تتعاون فيما بينها لإعداد وتحضير ندوات وأمسيات بمستوى أكبر وأكثر فاعلية من العمل الفردي لكل مؤسسة فالغرض هو واجهة الثقافة الحقيقية للمجتمع ونشر الفكر والوعي بوصفها مؤسسات ثقافية وليست مؤسسات تحاول تبرئة الذات كجدول اقتصادي أو الرغبة بالحضور الإعلامي فقط.
الإعداد لفعالية ثقافية يشتمل على جهد مادي ومعنوي متعلق بالتنسيق والتواصل المؤسساتي لإبراز الفعالية في قالبها المكتمل، مع ذلك فأغلب الفعاليات والندوات تنتهي بانتهاء وقتها المعلوم، ثم غالبا تكون المقاعد شبه خالية من الجمهور المتلقي، لماذا لا يتم استغلال هذا الجهد بحفظ الفعالية عن طريق نقلها مباشرة بوسائل التواصل الاجتماعي وطرحها بالشبكة بحيث تكون متاحة للقريب والبعيد، بهذا نستطيع حفظ الجهد والعودة إلى الفعالية للباحثين والمهتمين في أي زمان ومكان، جهد بسيط آخر سيحفظ واجهة ثقافية في عمان عبر استغلال الشبكة المعلوماتية والتطبيقات الحديثة التي تتناسب أكثر مع عصر السرعة وعصر القرية الصغيرة.
عودة إلى المستوى الثقافي في عمان، لا يزال المثقف العماني غارق في الكتابة الأدبية أو النقد السياسي، هناك انغلاق ثقافي نسبي على مستوى الكتابة فالكاتب لم يتطور قلمه بعد ليخرج من دائرة الكتابة السطحية إلى دوائر أكثر عمقا سواء في النقد بجميع مجالاته الأدبية والتراثية والفكرية أو الكتابة الحداثية التي تطال الفلسفة وتجارب الحضارات البشرية، في الوقت الذي تتصارع فيه المدارس الفكرية في الحديث عن نظريات ما بعد الحداثة لا يزال المثقف العماني يكتب بسذاجة كبيرة عن مسائل منقطعة عن العصر الحديث أو سخط اجتماعي مرتبط بقضية شخصية، الكاتب العماني يمتلك إمكانات فكرية هائلة إذا ما خرج إلى دوائر أعمق من واقعه المختزل في السرد أو النقد الشخصي، النقد تراثا وأدبا واقتصادا ثم تفكيك البنية الثقافية ومواكبة الفكر العالمي المطروح ينبغي أن يكون موضوع الكتابة الحديثة وأمسيات المؤسسات الثقافية كي نستطيع منافسة العالم ثقافيا وفكريا كما كانت عمان في تاريخها العريق.

تعليق عبر الفيس بوك