أحداث الأمسية .. تفتح ملف الهوية

 

د/عبد الله عبد الرزاق باحجاج

تابعنا يومي الخميس والجمعة الماضيين، مقاطع فيديو منتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن أمسية مُشتركة للجنسين، أثار فيها الرأي العام المحلي، تفاعلية نسائية مع إحدى فقرات الأمسية، اعتبرت مساسًا بمنظومة القيم، ومؤشرا على تحولات غير إيجابية، والمُثير هنا، اختلاف وتباين رد فعلين منسوبين لفاعلين يُمثلان موقفين رسميين لخلفياتهما المؤسساتية، الأول، (منسوب) للموظف المسؤول عن مسرح المُديرية العامة للتراث والثقافة، والثاني، يحمل اسم رئيسة جمعية تعنى بشؤون المرأة، وبينهما اختلاف وتباين كبيرين حول ما جرى في تلك الأمسية.

سنتناولهما من منظور عام ضمن سياق دواعي فتح ملف الهوية العُمانية، ليس من منظور هذه الواقعة فحسب، وإنما منظور أشمل، فالموظف المسؤول يستغرب من اعتبار التصفيق والتشجيع خطأ كبيراً في رده على موقف الرأي العام المحلي في مواقع التواصل الاجتماعي، وتساءل قائلاً: لماذا نُلقي اللوم على تفاعل الجمهور عندما يصفقون للمنشدين، وكأنها جريمة نكراء بينما نجد في عدم رضا رئيسة الجمعية عمَّا وقع من أحداث قبل تلك الأمسية، موقفًا متناقضاً شكلاً ومضمونًا مع موقف الموظف المسؤول، والتناقض نجده كذلك في مقطعين للفيديو منتشرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأول، صور الواقعة من مُقدمة الحفل، وتظهر فيه رئيسة الجمعية مستاءة جدًا عن التفاعلية النسائية المُثيرة للجدل، وقد عبَّرت عنها بحركة يد واضحة وضوح الشمس، والثاني من خلف الجمهور، وتظهر فيها التفاعلية أكبر مما رسمه لنا الموظف المسؤول والتي حصرها في التصفيق والتشجيع، وفي بعد خارجي، لكن، وهذا هو الأهم، أنَّ ما حدث من تفاعليه مثيرة للرأي العام المحلي تظل مردودة على مُمارسيها، وهي محدودة جدًا جدًا، ولا تمثل السياق العام للكيان المعنوي المحلي العام بما فيه الكيان النسائي، فالوقار والحشمة هما من متلازمات الشخصية النسائية العُمانية عامة، والتساؤل الحاكم للاختلاف هنا، يكمن حول مشاهد المقطعين هل يتناغمان مع الهوية العمانية، سنأخذ إحدى مكونات هذه الهوية، وهي الثقافة المحلية، ونقصد بها تلك الصور الذهنية التي تنعكس غالبًا على سلوك الأفراد في مجتمعنا، وهي التي تكونت لديهم من العادات والتقاليد والتراث الشعبي والمعارف التجريبية التي استقرت في وجدان المجتمع وأصبحت الأجيال القديمة تسلمها بكل دقة وأمانة للأجيال الحديثة.. الاحتكام لهذا المكون لوحده فقط دون المكونات الأخرى المهمة ... يُخرج التفاعلية عن سياقات الهوية العمانية، لكنها أي التفاعلية تمثل المحدودية الضيقة جدًا، ولا يمكن أن يحكم الاستثناء على العام، وهي ثمن الانفتاح والتحول الذي لم يلازمه التحوط والضبط القانوني والتربوي اللذين كانا ينبغي أن يتزامنان مع التحول منذ عام 1996، وذلك حتى لا تكون ممارسة الحرية الشخصية في مكان عام أو عمومي تمس منظومة القيم المتعارف عليها، وفي ظل عدم تلازمية هذين المسارين، تتكرر بين الفينة والأخرى، حالات محدودة تثير في حينها جدلا اجتماعياً حول السبب والمُسبب، والمسؤول، ويطرح التساؤل الجدلي التالي: هل القضية فردية تتحملها الأسر أم قضية دولة؟ ولا يمكننا أن نلقي اللوم على الأمسية، بل العكس، فهي في مسماها ومضمونها، وأهدافها رائعة، والجهات التي أقامتها مشكورة، فهي أمسية شعرية ثقافية إنشادية في نبض الوطن، ورغم ذلك ينبغي أن يدرس مسبقًا محتوياتها حتى نتجنب أية آثار قد تصنع مجدداً مثل تلكم المحدودية المثيرة للجدل، وكذلك الحالات التي تتحدث عنها رئيسة جمعية المرأة العمانية بصلالة، بتفاصيل مزعجة تمامًا، لكن، ورغم هذه المحدودية التي لا تُعبر عن الواقع العام الثابت بقيمه وأصالته، إلا أنها تستدعي المعالجة حتى لا تتكرر، وحتى لا تتسع، خاصة وقد حدث ما هو أكبر منها حدة وإثارة أثناء مناسبات سياحية وفعاليات سابقة، كتبنا عنها مقالات في حينها.

نرجع بداية التحولات القيمية إلى عام 1996، فهذا العام شهد تحولا جوهريا في دور الدولة الاقتصادي، إذ تبنت الحكومة فيه رؤية 2020م، تبنت من خلالها نظام الخصخصة وربط اقتصادنا بالاقتصاد العالمي أي الدخول في نظام العولمة، وهذا التوجه، لا خلاف عليه من حيث المبدأ، لكننا لم نحصن هويتنا بسياج قانوني وتوعوي يجعلنا نحمي الهوية العمانية من أية اختراقات جوهرية، وكنَّا قد كتبنا عام 2000 مقالاً عن مؤشرات للتحولات القيمية بعد أربع سنوات من تطبيق تلك الرؤية التي فتحت البلاد على العولمة الاقتصادية، وكانت بالتالي، مدخلاً لعولمة القيم الغربية، إذ لا يُمكن فصل العولمتين عن بعضهما البعض، علماً بأنَّ عولمة القيم الغربية استهدفت أولاً تفكيك المنظومة الاشتراكية بتأثير كتاب القرية الكونية لآرثر ماك لوهان، وقد كان أكثر المُتحمسين لتطبيق أفكاره وزير خارجية أمريكا آنذاك جون دالاس الذي استفاد منه في تطوير أساليب مكافحة الشيوعية، عبر توجيه الدعم المالي السخي لشبكات التلفاز العالمية لكي تنشر نمط القيم الغربية في المجتمعات الاشتراكية والمُجتمعات النامية التي يستهدفها الاتحاد السوفياتي – آنذاك -  لكن سرعان ما غزت هذه القيم كل مُجتمعات الدول النامية، والمفارقة الكبرى الآن، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قد أصبح من بين أهم أولوياته المُحافظة على ما يُسميه بالهوية الأمريكية، فأكبر دولة في العالم، تتحول الآن إلى الانغلاق والذاتية في وجه حضارات أخرى ترى أنَّها تُهدد هويتها، بل إنه يسعى الآن إلى صناعة الإحساس بالهوية الأمريكية لدى الأمريكيين عبر نقلهم من هويات مهاجرهم العرقية المُختلفة، ومنع هجرات جديدة من دول محددة بالاسم، والمتتبع لحملات الرئاسة الفرنسية خاصة والأوروبية عامة، سيتضح له أن العالم يتجه الآن إلى المحافظة على الهويات الوطنية، ولنا في كتاب الرئيس الفرنسي السابق نيكولاس ساركوزي"كل شيء من أجل فرنسا" استدلال على ما نقوله، فهذا الكتاب يدافع عن الهوية الفرنسية إلى مستوى شن حرب على التعددية الثقافية وحمل المهاجرين على الانصهار الكامل داخل الهوية الفرنسية دون السماح لهم بالتعايش بين هوياتهم الأصلية والهوية الفرنسية، بحيث يُعتبر تمسكهم بهويتهم الأصلية خطرًا على الهوية الفرنسية.

ونجد في أحداث تلك الأمسية، وما يصاحبها من جدل كبير في المجالس الخاصة وعبر التواصل الاجتماعي، فرصة مواتية لفتح ملف الهوية العمانية وضرورات تعزيزها في ضوء تلكم التوجهات العالمية الجديدة، فمن الملاحظ على صعيدنا العُماني، صعود أجيال جديدة لا تهتم بالحفاظ على الهوية، مما برزت مشكلات ناتجة عن تراجع الهوية، وقد بدأت تنعكس بشكل واضح على أبنائنا، وبالتالي، فإنَّ التصدي لهذه الظاهرة، وتربية النشء على التمسك بالهوية العمانية ضرورة آنية عاجلة، وهي مسؤوليات التربية والتعليم والأسرة والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، ولابد لكل مُجتمع محلي أن يبادر إلى وضع خطة لكيفية مواجهة هذه الأزمة ليس بسبب الغزو الثقافي الخارجي فحسب بل والداخلي كذلك، ففيه مسارات اختلالية خطيرة في التركيبة السكانية بحيث وصلنا إلى مستوى النسبة والتناسب بين عدد المواطنين والوافدين، فمن يؤثر على من؟ الوضع الحالي يدق ناقوس الخطر على هويتنا، ونقترح على كل مُحافظ تشكيل لجنة من مُختلف القطاعات الحكومية والأهلية والخاصة، وفق شروط معينة، لوضع خطة تعزيز هويتنا بمكوناتها الأساسية، فالهوية تتوقف عليها مسألة الوجود واستمراريته، فما أحوج بلادنا الآن إلى المحافظة عليه في ظل انكشاف أطماع إقليمية بتواطؤ عالمي، ودون ذلك، فإنَّ تحديات المساس بالهوية ستطال منظومة الانتماء والمواطنة، وهما سياج مواجهتنا لتلك الأطماع.