الإرهاب وعلاقته بالتخلف الفكري والاقتصادي والاجتماعي

 

مرتضى بن حسن بن علي

تسببت الهجمات الإرهابية في كثير من البلدان العربية في مقتل وجرح وإعاقة مئات الألوف من الأشخاص الأبرياء، خلال العقود الثلاثة الماضية. ويتحمل العرب باعتبارهم الضحية الأساسية لأيدولوجية القتل، واجباً أخلاقياً ودينياً لعزل وكشف ومعارضة هذه الإيديولوجية والمنظرين لها الذين يشجعون الارهاب باسم الدين ومن ضمنهم بعض العلماء والمشايخ، سواء عن طريق التحريض أو السكوت أو ايجاد الأعذار والذرائع أو القيام بإدانة باهتة في العلن للإرهاب مع مباركة في السر، مستندين على تفسيرات خاصة لبعض الآيات من القرآن الكريم أو لبعض الأحاديث أو اختلاق بعضها أو الحوادث التاريخية المنصرمة.

لا فائدة من الإنكار على وجود أسباب عديدة، خارجية وداخلية، حديثة وموروثة، ساهمت في إنتاج مناخ عربي مريض يفرخ الإرهاب. فالإرهاب لا ينمو من فراغ، وإنما يحتاج إلى تربة وبذرة وسماد ومناخ مناسب. ولكي نكون صادقين مع أنفسنا ومع غيرنا فلا بد من الاعتراف بأن العنف ظاهرة إنسانية تتبدى أو تتوارى في المجتمعات بعلاقة من نوع ما مع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والفكرية التي تسود تلك المجتمعات. وبسبب الصدمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والفكرية والجسدية المتراكمة، فقد جمحت – وكان محتماً أن تجمح وتتكشف- أسباب العنف.

هناك بالتأكيد من يساعد الإرهاب بالتحريض والدعم والتمويل، ولكن لا أحد يستطيع أن يستغل إلا ما هو قابل للاستغلال، أي أن المناخ المولد لظاهرة ما، هو الذي يساعد أكثر من غيره على ظهور واستفحال هذه الظاهرة. فالتحريض والدعم والمساعدة لم تكن جميعاً قادرة على أن توجه وتؤثر، إن لم تكن الأرضية جاهزة والجو مهيأً، ولذلك نحن كلنا مطالبون بمعرفة جذور الإرهاب: ما الذي يجعل عدد كبير من العرب يصاب بحالة من الانبهار بحقيقة أن شخصاً ما، على استعداد للموت من أجل قتل آخرين أبرياء؟ ما الذي يدفع ترسخ الفكرة عند شخص ما لإنهاء قيمة الوجود لديه وهو في مقتبل عمره، أملاً في الحصول على حياة مليئة بحور العين والغلمان المخلدين وأنهر من الخمر وكل أدبيات "الاستشهاد" الانتحاري؟ وقيام الانتحاري بتداول تلك الأدبيات "الاستشهادية" ليقتنع بها تماماً. كلها أمور ومواضيع تستحق البحث المتمعن، ولا أحسب أنّ الوعي العربي واجه تلك الأمور والمواضيع من زواياها المعرفية والتاريخية والواقعية.

وصايا الانتحاريين المسجلة، لا توضح مدى الاستقرار النفسي الذي يملأ قلوبهم والقناعة المسيطرة على أفكارهم فحسب، وإنّما توضح أيضاً أنّ ما يقدِّم عليه الانتحاري تعبير سلوكي عن عدم وجود رغبة الحياة لديه أو اختيار العدم من الوجود، وأنّه يقدم على عمله عن قناعة وبقصد الرغبة لتغيير واقع يراه سقيماً ومريضاً، أو منعاً لحصول واقع جديد يحسبه أكثر سقامة ومرضاً من الواقع الذي يعيشه وبالدم والنار. 

تلك الأيدولوجيا تغذيها مع الأسف - بقصد أو جهل أو تجاهل- العديد من المناهج المدرسية والدروس في المساجد ووسائل الإعلام، مستندة إلى حشد هائل من الفتاوي المتناقضة مع بعضها البعض وبعض الأطروحات التي تقسم المسلمين إلى فرق هالكة وأخرى ناجية وتنشر الكراهية والحقد بين اتباع الديانات والمذاهب والطوائف والملل والنحل.

قد نعزي أنفسنا بالقول أنّ كل ذلك من أعمال مجموعة صغيرة من الأفراد، دون الاعتراف الصريح بأنّ تلك الأعمال هي الثمرة المريرة لقبولنا وسكوتنا على اختطاف الدين وفي وضح النهار من قبل المتطرفين، بينما تراقب الأغلبية بخليط ممزوج من القلق والإعجاب أو عدم الاكتراث معاً، مما يجعل تلك المجموعة تعتقد أنّها تتمتع بالتأييد الضمني من الأكثرية. وإلى أن ترفع الأغلبية صوتها عالياً وجهيراً، تدين تلك الهجمات الإرهابية بدون تحفظ وبدون شروط أو كلمات اعتذارية مثل "لكن" "وإذا" وعندما" "وشريطة"، فإن تلك المجموعة سوف تظل معتقدة أنها تتمتع بالتأييد الضمني من الاكثرية. والحقيقة الماثلة أمامنا تشير إلى أن نجاح تلك الأطروحات على إغراء واحد بالمائة فقط، فإنّها بعملية حسابية بسيطة قادرة على إفراز نحو ثلاثين مليون إرهابي من المتعاونين أو المتعاطفين.

قد تكون هناك أسباب عديدة على قدرة تلك الأطروحات على التأثير، فالظروف المحيطة أوجدت حالة من خلل التوازن الاجتماعي والفكري تعتري المجتمعات العربية وتهزها بقسوة وعنف. وتسبب تشققات خطرة في البنيان الاجتماعي العربي.

إنّ دراسة أحوال المجتمعات العربية تتطلب معرفة واكتشاف عامل "الخصوصية" الموجود في تكوين العرب وتحديده باستقلال علمي وفكري ومن زواياه المعرفية والتاريخية والواقعية بمعزل عن التعميمات السطحية للأفكار السائدة وبمنأى عن المثاليات والوجدانيات القومية والوطنية "والدينية" والاتهامات بالكفر والإلحاد والردة غير المستندة على أساس علمي أو منطقي أو ديني.

لقد فقد العرب قوة الدفع الذاتي الأساسية للسير إلى الأمام، وحل محلها القصور الذاتي. ولا بد من معرفة أسباب ذلك تمهيداً إلى استنباط العلاج الناجع ليتناسب مع تلك "الخصوصية". لم يعد جائزا أن يبقى هذا "المسلسل" من الكوارث نتعاطى معها – كل كارثة على حدة – والنظرات الجزئية والآنية لا تغير من واقع الحال شيئاً. ومهما كانت مسؤولية الخارج، وهي كبيرة، فمن المهم أن نعرف نحن مسؤولياتنا، وذلك عن طريق رؤية الوضع كما هو ومعالجة الأسباب التي تفرخ الإرهاب. نحن لسنا بصدد حادث أو حوادث فردية، ولسنا أمام فئة ضالة أو قلة مخربة - وإنما نحن وراء الحوادث ووراء التخريب والضلال- أمام أزمة اجتماعية تعليمية اقتصادية – لها زوايا إنسانية وفكرية- تستوجب التدقيق بالبصر والبصيرة معاً.

والوضع العربي يحمل "أنيمياث" التخلف ولا بد أن نتعامل مع ملفه واقعياً ومعرفياً وفكرياً. ووجود قوى خارجية "تتآمر" علينا، يجب ألا يعفينا من مسؤولية مصيرنا. فالقوى الخارجية ستفعل ما تستطيع من اجل مصالحها. فما الذي يمنعنا من العمل الجدي لحماية بلداننا والعمل على تقدمها وتطويرها؟ ولماذا استطاعت دول عديدة في العالم من تجاوز "المؤامرة" الخارجية واستثمارها والاستفادة منها، بينما لا يزال العرب متخلفين عن ذلك؟ البحث عن هذه الحقيقة يغيب عنا أحياناً، ومن هذه الغيبة يكون الخطأ في التشخيص والخطأ في العلاج. وأي مرض قابل للعودة إذا ما قلت المناعة ضده، والمناعة لا تتأتى باستعمال طب بدائي يلجأ إلى نحر الذبائح دفعاً للأرواح الشريرة يحسبها داعي المرض، ومن هذه الغيبة أيضاً نجد الطبقات الشابة – التي هي مستودع الطاقة الحيوية والاجتماعية ومخزن طاقتها القادر باستمرار على دفع موجات التقدم – أصبحت مضغوطة ومحاصرة أكثر من اللازم.

هناك تخلف كبير ارتضيناه، وهو العنوان الكبير لما يجري من كوارث وهزائم وصراعات تعودنا أن نسميها "مؤسفة".. هذا الأسف المتكرر أصبح سمة من سمات ذلك التخلف. وإذا لم يبادر العرب بفتح ملف هذا "التخلف" بكل أبعاده وامتداداته وجذوره التاريخية والمعرفية وبكل ما يملكون من قدرة على البحث والتشخيص والتحليل والمعالجة، فإنّهم لن يغادروا الحالات "المؤسفة" التي يرونها في واقعهم الراهن ويتابعونها كل يوم عن مصير أوطانهم في نشرات الأخبار. وكل "آت" سيكون أكثر مدعاة "للأسف" من المأسوف عليه مع الأسف الشديد ويدفعهم إلى مزيد من الانزواء والتراجع إلى المجهول.

appleorangeali@gmail.com