د. سيف المعمري
لم ينته زمن الكنوز فالكل يمني نفسه بالعثور على كنز يغير حياته، أو يساعده على التغلب على صعوبات اقتصادية تواجهه في حياته، من قروض بنكية واستحقاقات تعليمية أو معيشية، والأمر ينطبق على البلدان التي أيضا تريد أن تعثر على ثورات جديدة تستثمرها من أجل مواجهة التقلبات الاقتصادية، ومن أجل الخروج من دوائر التقشف الذي عصر كثيرا من الخطط الاقتصادية، وذهب بكثير من الأحلام في التوظيف أو في الزيادات المالية في الرواتب، لقد تعودنا أن يغير الكنز حياتنا لا أن نقوم نحن باختراع الكنوز، ولذا خطتنا هي واحدة لا شريك لها الانتفاع بأموال النفط وعوائده ونحن بدونه لا حول لنا ولا قوة، ربما يقلل البعض من هذه الحقيقة ويقول إننا مجتمع صغير بدون موارد، وأنّ زراعتنا تحتاج إلى وفرة مياه لا نملكها، وبحرنا رغم ثرواته السمكيّة يتطلب معدات لا تملكها إلا السفن الكبيرة، ويرى ثالث أنّ الترشيد سيقود إلى نتائج إيجابيّة في تغيير اتجاهات النّاس؛ فهو لن يؤثر إلا على فئة محددة من المواطنين وسيجبرها على تدبر شؤونها المختلفة بعيدا عن الضغط على الحكومة التي ستعيد تحديد مفهوم الحقوق الاجتماعية وتعريفها وفق متطلبات المرحلة التي تتطلب كما يقولون أن تفطم الدولة مواطنيها لتدفعهم للبحث عن الكنز الذي سيغيّر حياتهم، ولا خيار لهم إلا أن يعثروا عليه في أي مكان، تحت الأرض التي يسكنون عليها، أو في المزرعة التي يمتلكونها، أو على الشاطئ الذي يمشون عليه كل مساء، أو في الصحاري التي يمارسون عليها مغامراتهم في الرقص بالسيارات على الرمال، أو بين ممرات الجامعات والكليات التي يمشون عليها متثاقلين صباحا أو مساءً، أو بين الأوراق المتراكمة التي يقلبها المجتمعون في اللجان طوال الأسبوع، أو في أروقة المؤتمرات والندوات اليومية، أو بين الكلمات العابرة التي تأتيهم من وسائل الإعلام كل يوم.. العثور على الكنز آخر الحلول لإنعاش الوضع الاقتصادي، ولتغيير كل شيء، ولتبديد كل المخاوف.
وقد يقول قائل كيف سيعثر الجميع على الكنز الذي سيغير حياتنا، والجميع تعود على حالة من الاسترخاء، وانفصل عن الواقع وما يجري فيه، من حكومة ومواطنين، كل ما يجري في الخارج يتم نقله عبر ورق إلى الذين لا يغادرون مكاتبهم إلا لبيوتهم، ومن بيوتهم إلى مكاتبهم، وبالتالي لا يعرفون شيئا عن الكنوز التي يمكن أن تعوضنا عن النفط الذي كان عابر سبيل نثر عليها من النعمة التي كان يمكن أن نستثمرها بشكل أفضل، وعلينا أن نقلل من التعلق به، والاعتماد عليه، فهو راحل لكن لا يريد أن يرحل فجأة، فيجعلنا نمر بمرحلة يُتْم مفاجئة تفقدنا ما بقي من تماسكنا ذلك أفضل لنا، أن يعودنا على الغياب تدريجيًا، وأن يختفي عن المشهد شيئا فشيئا، حتى إن صحونا ذات يوم ولم نجد له أي أثر لن نتأثر كثيرا، وسنعزي أنفسنا بأنه كان يبعث لنا بإشارات الرحيل، عندها سوف نسأل أنفسنا ما البديل، من يحل محل هذا العملاق الكبير الذي جعلنا نعتمد عليه كل هذه السنين، حتى إذا بدأنا في مشروع البحث عن كنز ما يحل محله، أفسد خطتنا وجعلنا نتراجع، حتى لا نمارس معه العقوق الذي أصبح القيمة التي واجهنا بها أهم ما نملك من ثروات ومواهب وكفاءات، لأننا ظننا واهمين أن لن نحتاج طالما النفط يقيم في ديارنا، فعققنا الزراعة والقطاع السمكي، وأهملنا المنجم التاريخي الذي يتوزع في كل الأرجاء، وتكسرت الأمواج واحدة تلو الأخرى على كل شواطئنا الطويلة، ولم يسمع صوت استغاثتها أحد، إلا جمل تعود أن ينزل من الجبل ليغتسل في شاطئ لا يمر عليه أحد، وقال يا للعجب أين الكاميرات المتقدمة عن بحر تركب فيه الأسماك على سنام الجمال.
إن رحلة العثور على الكنز الذي سوف يحقق لنا نقلة أهم من تلك التي حققها لنا النفط، لا يزال يعترضها التفكير الاقتصادي الضيق الذي لا يبحث إلا عن النفط في أشياء أخرى، بينما الكنز الذي علينا أن نؤمن به ونلتفت إليه بحدية، ونهيء له السبل هو الإنسان العماني الذكي، الذي سيقوم بعملية إيجاد الكنوز الجديدة وهي نفس المهمة التي قام بها الإنسان في أماكن أخرى من العالم، ليس ما أطرحه هنا تكراراً لما تم طرحه، لأننا لا نجد مؤشرات تؤكد أننا نعد الموارد البشرية كنزا يستحق أن نقبض عليه كالقابضين على مصباح علاء الدين؛ الذي بمجرد أن نطلب منه شيئا يستجيب بسرعة لأنه يملك قدرات ذهنية لا حدود لها على الابتكار والإبداع..
من يتتبع الطلبة والباحثين والأطباء والمهندسين العمانيين يجد ذلك التفوّق وحصد الجوائز عبر العالم، وذلك التقدير الذي تكنه جامعات العالم لهم، ومن زار الأسبوع العلمي الذي نُظِّم في الجامعة يُذهل من غرابة الابتكارات التي يقدمها الطلبة، أفكار في كل مكان؛ تُعبِّر عن كنوز لابد أن نهتم بها، ونستثمرها لا أن نستعرضها في مثل هذه الاحتفاليات وبعد ذلك لا نساعد أصحابها يزرعونها في التربة العمانية لتنبت شركة رائدة على مستوى العالم، ولتقد الجامعة زمام المبادرة ولتوظف الطلبة في إعادة رسم ملامح المستقبل العماني، بما فيها الاقتصاد، ولتهتم بهذا المورد، ولنؤسس نواة لما يشبه وادي السليكون الذي قاد زمام التقدم التكنولوجي العماني، ما الذي يمنع الجامعة من تأسيس مساحات للشركات التي يؤسسها الطلبة؟ ما الذي يمنعها من تأسيس إذاعة علميّة تبثُ على مدار الساعة ما يدور من أفكار وتطبيقات ودراسات؟ والأمر ينسحب على بقيّة المؤسسات التعليمية وغيرها من المؤسسات المعنية بالتوظيف التي يجب أن تُعبِّد الأرض أمام أهم كنز تملكه عمان اليوم لكي ينجح في النهوض ببلده، وتعويض حرمان الثروات بجودة الابتكارات والاختراعات.
لا شك أنّ الخطر الأكبر على مثل هذا الكنز هو اعتقاد البعض بأنّ الموارد البشرية تتطلب كثيرًا من الأموال عند التوظيف، وأنّ الاعتماد عليها ربما يقلل من الأرباح التي تحصدها كثير من الشركات حاليا نتيجة الاستعانة بالعمالة من الخارج، وكذلك ربما تقود الموارد البشرية العمانية ودخولها في مجال ريادة الأعمال بدعم حكومي ليس مالي ولكن تشريعي يقوم على كسر الاحتكار قد يؤدي أيضا إلى تهديد الشركات الحالية، وبالتالي فإننا أمام بيئة تعيق استثمار هذا الكنز لصالح البلد، وإلا ما معنى أن نجد كل هذه الأعداد من الخريجين الذين أنفقت عليهم الدولة ملايين كثيرة تجلس بدون عمل، وتعود إلى الأميّة مرة أخرى، ألا يعبر هذا عن تقليل من قيمة هذا الكنز، وتعلق بأشياء أخرى تشبه النفط، عطاؤها محدود ومؤقت، ألم نتعلم بعد مما جرى؟ ألا نريد أن نحقق "الانطلاقة الكبرى" التي عبر عنها أحد أهم الوزراء في الحكومة خلال العام الماضي؟
لا شك أنّ الأرض العمانية اليوم خصبة بالمواهب وأصحاب الأفكار من الشباب المتحفزين، لذا علينا ألا نجابهها بالعقوق كما فعلنا مع الأرض الزراعية التي كانت أيضا خصبة وتمحلت وأصابها ما أصابها من تحديات؛ قللت من إمكانية الاعتماد عليها ككنز يمكنه أن يوفر لنا ما نحتاجه من خيرات.. علينا أن نلتفت إلى الكنز قبل أن نفقده كما فقدنا غيره.