هي.. نبض حياة

 

مريم اللمكية 

 

إن فهم المعاني العميقة للحياة لا يأتي من عبث أو من فراغ أو من حياة سطحية لا تتجاوز الاهتمام بالماديات وبتوافه الأمور ومظاهرها إلى الغوص فيما هو أعمق من ذلك. فالإحساس بما حولنا، والغوص في أعماق نفوسنا، وإدراك ماهية الأشياء، وترجمة القيم والمعاني الجميلة لتنبض في شرايين الحياة من خلالنا، كل ذلك أمور ترتقي بمعنى إنسانيتنا، وهي الترياق الذي يحرر العقل البشري نحو خلق حياة أفضل قابلة للتعايش بسلام فيما بين بني البشر وفيما بينهم وبين عناصر الحياة النابضة من حولهم.

  وفي تعمق نحو فهم معنى القيم وهي على عكس الأشياء الحسية من حولنا والتي يمكن ملاحظتها وإدراكها من خلال الحواس، ندرك شيئًا من المعنى الحقيقي الذي تنبض به، فالقيم كالإيمان والشجاعة والبطولة والمروءة وغيرها من الفضائل الدينية والخلقية والاجتماعية - وهي في أبسط تعاريفها أشياء معنوية غير محسوسة - وُجدت كقوى خفية لنترجمها نحن الأحياء من خلال تفكيرنا، مواقفنا، ردود أفعالنا، أقوالنا، سلوكياتنا، تجاه مصدر الخلق الأعظم الله ومن ثمّ تجاه أنفسنا وتجاه بني جلدتنا من البشر وباقي المخلوقات والأشياء، ولعلّ هذا هو السر الذي يبقى معه للقيم رونقها المستمر بظهورها الذي يروي الأرواح وبغيابها الذي تنشد فيه عودتها لتنير عتمة الظلم والاستبداد والأنانية والزيف.

وعلى قدر قدرة النفس البشرية على إدراك بواطن الأمور ونبذ سفاسفها وعدم المحدودية والتقوقع ضمن شكليّاتها البحتة وجدليّتها المتغيرة، تأتي قدرتها على احتضان هذه القيم وترجمتها في واقع الحياة. حتى أنّ التاريخ البشري ليؤرخ لبعض القيم السامية بأسماء معينة أُعتُبِرت مثالا لها لا اختلاف في أيهّما المقصود إذا ذُكر الاسم أو القيمة أولًا أو أحدهما، إذ ترجم بعض الأشخاص هذه القيمة أو تلك في واقع الحياة أجل ترجمة فاستحقوا وسام البطولة الذي قلدهم إيّاه التاريخ باقتران أسمائهم بها، فكانوا مثالا لقيم سامية كالكرم والشجاعة والبطولة والحلم.

  وفي حياتنا ثمة أسماء لا ولن تخلوا منها ذاكرة الأيام نبضت حياتهم بالقيم المثلى، ولا بد أنّ حياتهم لم تكن في مجملها طريقا سالكة للمضي قدما في إثبات هذه القيم وبعثَّا فيما حولهم، وإلا لما استحقوا وسام اقتران أسمائهم وشخوصهم بها كلما التمعت أو التمعوا في ذاكرة إنسان.

إنّ القيم التي نقصدها هنا حين نقول قيما فإننا لا نعني بذلك مجرد معتقدات أو آراء قابلة للتغير أو التبدل، وإنما نعني القيم بأصالتها ومثاليتها بحيث لا يشكك في هذه الأصالة والمثالية مشكك، وبعد هذا فما دونها لا يوجد ما يقال عنه قيم سلبية إذ لا مجال لتفريعها إلى إيجاب وسلب فهي لا تقبل إلا الإيجاب والسمو والرفعة والخير؛ لأنّ كلمة قيم كلمة عريقة أصيلة ضاربة بجذورها في عمق كل معجم ولسان، شامخة بعلوها ممتدة نحو السماء، حيث النقاء والصفاء حيث الروح حين تصعد بطهرها ونقائها من غفوتها الدنيوية نحو حياتها البرزخية نحو سبات يقظتها الطويل إلى أن يشاء الخالق لها أن تفيق بمعنى آخر لتندمج مرة أخرى مع جسدها الترابي، ولكن لتغدو هذه المرة شيئا آخر لا يسعنا هنا أن ندرك منه إلا اليسير، والمحظوظ منا من عاش بالقيم ليدرك أكثر مما يسع غيره أن يدرك، لأنّه سيكون أقرب ما يكون إلى الله إلى الحقيقة إلى معنى الحياة معنى أننا هنا لغاية أسمى نلتمسها من العمق عمق الأشياء. وحدها القيم تستطيع أن تسطر للإنسانية خلودا صارخا على صفحات التاريخ وكأنها الأداة الخفية التي تستخرج من بواطن النفس البشرية جمالها، فيَظهر للوجود حضارة وفنونا آدابا وفكرا.. إلخ عطاء زاخرا، ولذلك حيثما وُجدت القيم وُجدت حياة إنسانية بكل ما لكلمة إنسان من معنى ذات مناخ مهيأ للعطاء والإنتاج المبدع الخلاق، وعلى النقيض من ذلك حيثما انحسرت القيم وضاقت النفوس عن استيعابها واحتضانها وترجمتها وُجد الدمار والتخريب فلا حضارة ولا رقي.

تعليق عبر الفيس بوك