مناعة الوطن من وعي المواطن

علي بن مسعود المعشني
مناعة الأوطان عادة تأتي من الهبات الربانية الطبيعية التي يهبها الله لها، من موقع جغرافي مميز وثروات طبيعية وتناغم مثالي بين المساحة وعدد السكان.
وتعززت تلك المناعة في العصور الحديثة بما يوفره الإنسان ويصنعه لوطنه من عوامل تعزز من مناعة الوطن، وتحجم من المخاطر وتردع الطامعين. وعلى رأس هذه العوامل يأتي العنصر البشري ومدى ما يتزوّد به من علم ومعرفة وفنون ومهارات الدفاع عن الوطن عبر المؤسسات العسكرية والأمنية والتي عرفت عبر التاريخ البشري، وأنيط بها الدفاع عن الوطن وحماية مكتسباته والدفاع عن مصالحه.
عرفت الأوطان عبر التاريخ البشري ومراحل وأطوار الدولة مفاهيم وأشكال مختلفة لمناعة الوطن وأمنه، وصون مكتسباته وحفظ استقراره.
تجاوزت المفاهيم المعاصرة الأدوات التقليدية لحفظ أمن الوطن وتحصين مناعته، واستدعت الحاجة مفاهيم وأدوات جديدة مكملة للمفاهيم والأدوات القديمة ومفعلة لها وأحيانًا ناسخة لها وبديلًا عنها، وبحجم وأنواع المخاطر.
قسمت العلوم العسكرية الحروب إلى أربعة أجيال هي:
حروب الجيل الأول:
ويقصد به الحروب التي كان يستخدم بها حشد ناري باستخدام تكتيكات وتشكيلات الصفوف والأعمدة المتلاصقة. ومن الأمثلة عليها: الحروب الأهلية الإنجليزية (1642 – 1651)، الحروب النابليونية (1803 – 1815).
حروب الجيل الثاني: وهي تكتيكات الحرب التي استخدمت بعد اختراع البنادق البدائية بمدى أطول نسبياً عن التي استخدمت في الجيل الأول وأصبحت أدق وبداية تطوير الأسلحة الآلية. وتمّ استخدام تكتيكات وتشكيلات الصفوف والأعمدة، ولكن تمّ التركيز على التكنولوجيا لكي تسمح لعناصر قليلة بالمناورة منفردة، مما مكن هذه العناصر بالتقدم السريع وخسائر أقل وإمكانية استخدام الغطاء والتمويه لصالحهم. وهذه المبادئ ظلت تستخدم حتى عندما ظهر الجيل الثالث ولذلك نهاية الجيل الثاني غير محددة مثل نهاية الجيل الأول، ولكن عندما بدأ تطوير "الحروب الخاطفة" أظهر بعض عيوب أماكن إطلاق النار الثابتة وبطء المشاة، لذلك يمكن إطلاق عليها بداية نهاية الجيل الثاني. ومن الأمثلة عليها: الحروب الأهلية الأمريكية (1861-1865)، الحرب الأوروبية (العالمية) الأولى (1914-1918).
حروب الجيل الثالث: ويمكن اطلاقها على بداية الجيل الثالث (ونهاية الجيل الثاني) عندما بدأت ألمانيا في تطوير "الحروب الخاطفة"، تم التركيز في هذا الجيل على استخدام السرعة وعنصر المفاجأة لتخطي أو تجنب خطوط العدو وانهيار قواتهم من الخلف، بواسطة جنود لا يسعون لمواجهة العدو وجهاً لوجه بل مناورته والحصول على ميزة أكبر.
المساهمات في الحرب:
كانت مرتكزة على التغلب على عيوب التكنولوجيا باستخدام استراتيجيات أفضل، وعندها بدأ القتال التلاحمي وقتال الصفوف والأعمدة بالتلاشي، وبدأت تظهر طرق جديدة للتحرك بسرعة.
التشديد على التحول من التدريع الشديد إلى السرعة، وبدأ تطوير الطائرات العامودية (الهليكوبتر) سمح باقتحام الأراضي المعادية، وبدأ تطوير تكنولوجيا الصواريخ سمح للقوات بتخطي دفاعات العدو والهجوم على أهداف أعمق من آماد بعيدة.
أمثلة عليها: الحرب الأوروبية (العالمية) الثانية (1939-1945)، الحرب الكورية (1950-1953)، حرب فيتنام (1956-1975) حرب الخليج (1990-1991)، احتلال العراق (2003).
حروب الجيل الرابع: فهي صراع يتكون من خطوط غير واضحة بين الحروب والسياسة وبين المقاتلين والمدنيين.
وهو مصطلح استخدم عام 1989م، من قبل فريق من المحللين في الولايات المتحدة الأمريكية، لوصف عودة الحرب إلى نموذج اللامركزية، وفى مبادئ أجيال الحروب الحديثة، الجيل الرابع تعنى فقدان الدول احتكارها للقوات المقاتلة، والعودة إلى أوضاع الصراع الشائعة في العصور ما قبل الحديثة.
تعريف مبسط: حرب أحد المشاركين الرئيسيين بها ليس تابعا للدولة أو الحكومة، أمثلة كلاسيكيه: انتفاضة العبيد في اسبارتاكوس (73-71 ق.م)، أو اغتيال يوليوس قيصر بواسطة مجلس الشيوخ الروماني (44 ق.م) وما سمي بثورات الربيع العربي أو الثورات الناعمة التي اجتاحت عددا من البلدان بقصد إسقاط نظم الحكم فيها لصالح الغرب كرومانيا وجورجيا وأوكرانيا.
ويتم تعريف حروب الجيل الرابع على أنها صراعات تنطوي على العناصر التالية:
*معقدة وطويلة المدى
*الارهاب
* أجانب أو قواعد عابرة للحدود، لامركزية
 *هجوم مباشر على ثقافة العدو
*حروب نفسية متطورة للغاية؛ خاصة عبر الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي
*استخدام كل وسائل الضغط: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
*الصغر في الحجم وقدرة الانتشار والدعم المالي.
*استخدام المسلحين وحروب العصابات.
من تطور الحروب وتدافع المصالح تتطور مفاهيم الأمن وأساليب الدفاع والتحصين لدرء المخاطر والحفاظ على الأوطان من الشرور والأطماع.
وبما إن القدرات العسكرية وموازين القوى المادية على الأرض تتفاوت بالعادة بين المتصارعين فإنّ هناك موازين أخرى غير مرئية أحيانًا هي من تتكفل بترجيح الكفة وحسم الحرب على المدى البعيد وهي العقيدة العسكرية للجيوش والعقيدة الوطنية للشعوب.
فالعقيدتان عبر التاريخ هما من حسمت الحروب ووجهت مسارها وسيطرت على نتائجها النهائية وحققت أهدافها. كون هاتين العقيدتين تتشكلان في الأساس من ثوابت وموروث وثقافات كل شعب وبقدر صلابتهما تتكسر عليهما كل الحروب وتتفتت كل المؤامرات، ويأتي الوعي الشعبي على رأس هاتين العقيدتين بتقدير حجم الخطر والتقاط اللحظة التاريخية وإدراك الظرف والسبل الكفيلة بتحقيق النصر.
عبر التاريخ انتصرت إرادات كثيرة صغيرة الحجم ظاهريًا وماديًا على قوى كبرى بفعل وأثر الوعي العميق المؤجج للعقيدة القتالية، تلك العقيدة القادرة على إيقاظ التضحية بلاحدود في سبيل الوطن، والسمو على الخلافات والجراح واقتناص اللحظة التاريخية وتفكيك مضامينها ومراميها، وإعادة إنتاج الوطنيّة والوطن بأفضل المقوّمات وأجلى المواقف وأقوى الأدوات والوسائل.
وحروب الجيل الرابع جل هدفها تفتيت العقائد الوطنية والعسكرية للشعوب والأوطان والعبث والتشكيك بها ليسهل الاختراق ثم التفتيت وإلحاق الهزيمة المنكرة بالخصم ثم تسليمه مشعل تدمير ذاته بالنيابة وبنجابة في لحظة تغييب عقل وحصاره بتضليل وأكاذيب احترافية عالية التأثير والمفعول، ولكنّها في النهاية لا تستطيع اختراق العقول الواعية والمحصنة المسلحة بالمنطق والمؤمنة بالوطن وحرماته فهي حروب صممت في الأساس على مقاس العقول الخاوية المنبهرة والفكر المراهق، تلك العقول التي تنظر للوطن كمرفق سياحي لا أكثر لتغادره حين تسوء خدماته، تلك العقول التي حين تكتشف أن الوطن غال تسارع لبيعه.
وفي الختام يمكننا القول أنّ مناعة الوطن ليست في جيشه ولا مقدراته المادية فحسب بل في وعي أبنائه وبمدى حجم الوطن ومكانته في قلوبهم وعقولهم.
قبل اللقاء: "الوطن سفينة بلا قوارب نجاة"..
وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com