أين نريد أن نصل بأبنائنا بمسابقة النظافة؟! (1-2)

سيف المعمري
أكثر من خمسة وعشرين عاماً مضت منذ إنشاء مسابقة المحافظة على النظافة والصحة في البيئة المدرسية، والتي يشرف عليها مكتب المسابقة التابع لمعالي الدكتورة وزيرة التربية والتعليم، ورغم أنَّ المسابقة شهدت تغيرات جذرية في آليات ومحاور التقييم، وآليات تشكيل لجان المتابعة والتقييم الرئيسية، واللجان المحلية بالمحافظات التعليمية؛ إلا أنَّ المسابقة لا تزال تراوح مكانها، ولم تستطع -على ما يبدو- أن ترسخ في نفوس الطلاب قيم النظافة والصحة لا في البيئة المدرسية، ولا في البيئة المحلية المحيطة بالطالب، وإنْ كان البعض يرى غير ذلك، فهي مجرد أوهام ولا تعززها حقائق ملموسة والتي سيأتي التفصيل عنها لاحقا.
وقد شهدتُ ولادة المسابقة في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وأنا طالب في المراحل الدراسية الأولى، ثم عاصرتها في الميدان التربوي كمعلم، وأعايش الآن مراحلها كولي أمر، ولم أرَ تلك القيم التي تنشدها المسابقة مترسخة في مجتمعنا، فمن كان طالبا مثلي في عقد ولادة المسابقة أصبح أبا وجدا، ولا يزال يتردَّد في مسمعه صباح مساء "الهيلمان العريض" لاسم المسابقة الرنان، ورغم ذلك يتضاعف إنفاق الحكومة عاما بعد عام على خدمات النظافة وتكاليف الصيانة؛ سواء في المؤسسات التربوية بجميع مراحلها الدراسية، أو حتى على مستوى البيئة المحلية بجميع مفرداتها ومرافقها العامة.
ومع كل صرخة يطلقها المجتمع بشكل عام والتربوي بشكل خاص لوقف المسابقة التي سيطرت على كل مجريات العمل التربوي، وأغفلت عن أولوياتها في أداء رسالتها التربوية من خلال المنهاج الدراسي وما يتضمنه من معلومات ومعارف ومهارات، إضافة إلى المنهج الخفي من قيم وسلوكيات وأخلاق في بيئة المدرسة والذي يكتسبه الطالب من خلال تفاعله مع محيطه التربوي، بعيدا عن التنظير والتكلف والتمثيل المصطنع، وهناك من يكابر على أهمية المسابقة وإن المعول عليها ترسيخ قيم المواطنة والممارسات الصحية للطالب كاهتمام الطالب بنظافته الشخصية ومحافظته على أدواته الشخصية ونحو ذلك، وتناسى أولئك أن تلك القيم والممارسات هي جزء لا يتجزأ من قيم وسلوكيات المسلم التي تربَّى عليها من خلال القرآن والسنة، كما أغفلوا مستوى الوعي المجتمعي الذي وصل إليه الوالدان نتيجة مستوياتهم العلمية والمستوى المدني الذي يعيشه المجتمع من خلال الانفتاح على العالم والتناغم مع التطورات في جميع مناحي الحياة، فإنْ كان الناس في العقود الماضية كانوا يتوافدون على الأفلاج والبرك والأودية الجارية للاستحمام والاعتناء بالنظافة البدنية، أصبح الوضع الآن غير ذلك مع استقرارهم في الفلل السكنية الراقية وتغيُّر نمط الحياة، بعد أن كانت بيوت الحارة القديمة المتواضعة، بل حتى الأطفال في المهد أصبحوا لا يلبسون ملابسهم إلا بعد أن يتم إنعاشها بالكي والطيب والبخور، فإن كانت بواكير مسابقة النظافة عاملا في غرس تلك السلوكيات في نفوس الأجداد والآباء، فلنترك تلك السلوكيات يتناقلها الأجيال، ولنعفي تلك المسؤولية الجسيمة عن مسابقة النظافة، ولنخفف عبئها عن المطالبين بإلغائها.
إنَّ ما يُؤخذ على المسابقة أنَّها تعدت مضامينها السامية في إذكاء روح التنافس في إعطاء صورة مُشرقة للبيئة المدرسية في المحاور الثلاثة التي ترتكز عليها؛ وهي: النظافة، الصحة، البيئة، وربما كانت في مرحلة معينة كنا بحاجة لتوجيه أنظار البيئة التربوية بجميع عناصرها لتلك المحاور، مع تناغمها مع الرسالة النبيلة التي تؤديها رسالة التربية والتعليم في المؤسسة التربوية الثانية وهي المدرسة، ولكن -وللأسف الشديد- لم يعد يشغل القيادات التربوية بالمديريات التعليمية ومدارسها في الوقت الراهن سوى التتويج بلقب المسابقة أينا كانت الوسيلة، فالظفر بلقب المسابقة سيجعلهم في مقدمة الركب في حفل التكريم ورصد المكافأة المالية الشخصية، ولجميع أعضاء اللجان الفائزة وغير الفائزة، بينما سيحظى مديرو المدارس الفائزة في كل محافظة برضا المسؤولين في المديرية التعليمية، وربما سيكون لفوز مدارسهم بأحد المراكز المتقدمة في المسابقة جسرا لهم للعبور إلى وظائف إدارية أعلى بالمديرية، وهذه هي حال معظم المدافعين عن بقاء المسابقة.
وبجانب ذلك، فإنَّ الكثيرَ من التربويين لديهم نهم في الدخول كأعضاء في مسابقة النظافة سواء على مستوى اللجنة الرئيسية أو اللجان المحلية في المحافظات، للأسباب سالفة الذكر من مكافأة، وتكريم، والبحث عن وظيفية أعلى ونحو ذلك، فضلا عن أنَّ مَنْ يدخل في لجنة مسابقة النظافة يتم إشغاله عن مهامه الوظيفية الأساسية إلى العمل فيما كل ما يتعلق بالمسابقة، خاصة في الفصل الدراسي الثاني الذي يشهد في المحافظات التعليمية استنفارا غير طبيعي، حيث يواصلون العمل الليل بالنهار، خاصة في ليالي زيارة لجنة المتابعة والتقييم الرئيسية للمحافظة التعليمية، وتجد حملات التنظيف ودهان الجدران وصيانة الأثاث المدرسي والأبواب والنوافذ، وإصلاح أجهزة التكييف وبرادات المياه، وتبديل وصيانة محابس دورات المياه، والتأكد من صلاحية أسطوانات الإطفاء، وأعداد السجلات واللوحات الارشادية والتوعية. وفي تلك الظروف، تجد بعض المعلمين والمعلمات والطلاب وأولياء الأمور يمضون الأوقات الطويلة في ساعات متأخرة من الليل، حتى لحظة زيارة اللجنة الرئيسة في صبيحة اليوم التالي، وبعد انتهاء اللجنة من التقييم ومغادرة المدرسة تعود الحياة في المدرسة إلى حيث كانت، على أمل التفكير في المسابقة في العام المقبل.

Saif5900@gmail.com