مرتضى بن حسن
يُقال في الطب إنَّ الاعترافَ بالمرض يُشكِّل المقدمة الأولى للشفاء، وتشخيصه هو نصف الطريق لعلاجه.. ونفس القول ينطبق على الأمراض "السياسية والاقتصادية والاجتماعية". والحمد لله، أنَّ المسؤولين الخليجيين أصبحوا يُقرُّون الآن -وإن على استحياء- بعد إنكار وعناد طويلين، بوجود أزمة اقتصادية، بعد أن اكتشفوا أنَّ الاقتصاديات المعتمدة على التدفقات النقدية الاتية من تسييل أصل ناضب،ا قتصاديات ريعية هشة، ولم تُستثمر لبناء هياكل إنتاجية وتعليمية وتدريبية واجتماعية المهمة للتنمية المستدامة، رغم أنَّهم -ومنذ بداية السبعينيات- كانوا ينادون بتنويع مصادر الدخل وتطوير الهياكل الاخرى المرتبطة بها.
ونعرفُ الآن أنَّ وسائل الفحص الناجع ما لا أول له ولا آخر؛ فهناك التحاليل المختبرية كيميائية ومناعية وجينية، وهناك الوسائل التصويرية بالأشعات تنفذ إلى كلِّ موقع في الجسم، وهناك الدراسات الفسيولوجية والكهربية تختبر كل جزئية، وهناك المناظير الداخلية تخترق أعماق الجسم، وهناك تحاليل ودراسة الأنسجة تفك طلاسم التركيب البشري ذاته، حتى أصبح في مقدور الطب أنْ يرصد العلل المتربصة بأي إنسان قبل أن يُوْلَد. وقبوله لوسائل العلاج مهما بلغت مرارتها مهم لتحقيق الشفاء.
ولكلِّ داءٍ دواء بذاته.. ولا تفيد أكثر الأدوية فعالية إذا كانت غير مناسبة لطبيعة الداء أو لم يتم تناولها في الوقت المناسب، أو كانت الجرعات غير مناسبة؛ إذ إنَّ المرض ربما انتقل من طور إلى طور آخر أكثر تعقيدا، ويحتاج إلى أدوية مُختلفة وبجرعات أقوى وأطباء أمهر. وتَزْخَر وسائلُ الإعلام بتصريحات حكومية وغير حكومية وبكتابات لعدد من الكتاب والاقتصاديين تُحاول تشخيص طبيعة الأزمة الاقتصادية، وتُرجعها إلى أسباب تَراها. ومن ثم تعدَّدت الآراء عن وسائل العلاج وأدواته بتعدد الآراء وبتعدُّد تلك الشخصيات. وفِي اعتقادي أنَّ بعض هذه الآراء صحيح جزئيا، ولكنه لا يُفسر تفسيرا كاملا أسباب الأزمة؛ وبالتالي لا يتوصل إلى علاج ناجع، وإنما يُؤدِّي على أحسن الفروض إلى الأخذ بمسكنات محدودة المفعول وقصيرة الأجل في تأثيرها.
كانتْ أوْلَى مُحاولات التشخيص تذهب إلى أنَّ هذه مجرد دورة نفطية من التي عرفناها سابقا، تأتي وتذهب وترجع الأمور إلى طبيعتها وترتفع أسعار النفط من تلقاء نفسها لعوامل ذاتية تنطوي عليها طبيعة الدورات النفطية، ويكون الحل بتقديم مساعدة محدودة من السلطات المختصة بُغية تقصير فترة الركود، ومن دون التفكير أنَّ الاعتماد المفرط على النفط هو سبب الداء أصلا. وفعلا ظهرتْ مُقترحات بأنَّ علاج الموقف يتمثل في أن تقوم الحكومة بوقف الترقيات والتوقف عن التعيينات والمشاريع ورفع الدعم وتأخير مستحقات الشركات وزيادة الضرائب دون أن تدرك أنَّ تلك مُجرَّد زيادة مؤقتة في إيرادات الخزينة وتدفقاتها المالية سحبا من مصادر وطنية أخرى وليس زيادة في إيرادات الدولة. كما اتجهت إلى السَّحب من الاحتياطيات، وأخذ بعض القروض الداخلية أو الخارجية...إلخ. صحيح أنَّ بعض هذه الإجراءات كان يُساعد جزئيًّا على مُواجهة الموقف، ولو وقتيا، إلا أنه لا يمثل العلاج الكامل للأزمة. فمؤشرات الاقتصاد وإيرادات الحكومة كانت تدلُّ ولا تزال على أنَّ هُناك خللا هيكليا أكثر عُمقا في الاقتصاد القومي وليس مجرد دورة نفطية عابرة.
بعض الأسباب التي أوصلت إلى هذا الوضع أصبحتْ معروفة وواضحة: اختلال رهيب في ميزانية الدولة المتمثل في الإعداد الهائلة من الموظفين، وما يترتب على ذلك من ضخامة الإنفاق على بند الرواتب والأجور والمشاريع الإنشائية في فترة قصيرة، يقابلها ضعف بالاستثمار في المشاريع الإنتاجية المدرة للدخل والموفرة لفرص العمل ودور الحكومة المتضخم ببيروقراطيتها وهيئاتها الاقتصادية والخدمية، وفي كيفية تخصيص مواردها بين مؤسساتها المختلفة وأوجه إنفاقها والاعتمادية المفرطة على الريع، وما أفرزته من تدفقات نقدية دون جَهْد، بدلا من اتباع نظم تعليمية وتدريبية واجتماعية عصرية لإنهاض المجتمع وتحديث دولاب الإنتاج، وعدم الاهتمام بتنويع مصادر الدخل واتباع سياسات عامة تفتقد إلى الكفاءة، أو اتباع معايير موضوعية للأداء والمحاسبة والثواب وعدم والشفافية والمراقبة، وتحديث هيكلية الاقتصاد لتقليل العمالة الوافدة المكثفة، وصغر حجم الاستثمار الأجنبي، وتركز معظمه في قطاع الطاقة، والصعوبات في جذبه مقارنة مع عدد كبير من الدول بسبب وجود كثير من المعوقات؛ منها: ضعف التشريع، وعدم وجود قوة بشرية مؤهلة، والتشريعات المتعلقة بأنظمة العمل والأجور، والمعوقات البيروقراطية السائدة، وإلى تزايد موجة العداء لرجال الأعمال ولكل ما هو أجنبي، الذي يؤثر تأثيرا بالغا على الاستثمار المحلي والأجنبي على السواء. وفِي الحقيقة فإنَّ هذه العناصر تتحمل مسؤولية كبيرة عن الأزمة الاقتصادية.
والمعادلات والصياغات الاقتصادية والمالية التي طُبِّقت خلال العقود الماضية أصبحت مهجورة، عتيقة بالية ومكلفة إلى أقصى حد، وأفرزت مجتمعات خاملة من الناحية الاقتصادية وعاجزة عن المنافسة في ساحة دولية متغيرة. وقد جاء الوقت لكي ندرك أنَّ استمرار الرفاهية بالوسائل السابقة غير ممكن، وأنَّ الأوان آن لتجديد دولاب الإنتاج وتحديثه. وأنْ لا نظهر المشكلة على أساس أنَّها مُشكلة مالية نقدية مؤقتة، أي مُشكلة توافر الأموال والثروات، لا مشكلة تنشيط المجتمع اقتصاديًّا وعلميًّا واجتماعيًّا.
والخطوة الأولى للإصلاح هي التشخيص السليم للأزمة الشاملة بأبعادها الإدارية والتعليمية والاجتماعية والتدريبية والمواجهة الواقعية والعقلانية للجذور الحقيقية لها. والقرارات لا بد أن تأتي نتيجة دراسات تفصيلية مُعمَّقة لأوضاعنا وقدراتنا العملية. والتعامل مع مسألة الإصلاح الاقتصادي الشامل لن يتأتى أو يُكتب له النجاح إلا من خلال تحوُّلات وتبدلات قيمية وثقافية وعلمية مختلفة، تُسهم فيها كل الأطراف الحكومية والمجتمعية.
... إنَّ مُعالجة الأزمة تتطلَّب مُعالجات مُتعدِّدة ومُتنوعة، وهي ليست نتاج انخفاض الإيرادات فقط، بل نتاج سياسات استمرَّت لِعدَّة عُقود، وجاء الوقت الذي أصبحت ضرورة مراجعتها بعقليات مختلفة، أمرا لا مندوحة عنه. والأوطان من حقها وواجبها أنْ تراجع تجاربها، والمراجعة الأمينة حساب يجمع ويطرح، وهو في النهاية يضيف منجزات وخبرات يصبح تراكمها أرصدة تُوفِّر طمأنينة للأوطان تحتاجها في يومها وغدها، وعكس ذلك فإنها تتجمَّد ثم تتخلف. ولدينا عبر الخليج رصيدا جيدا من الكفاءات والخبرات لا بد من الاستعانة به لأنه قادر أن يتحمل مسؤولية نقلة حضارية قادرة على أن تواكب العصر.