الجامعات وكسر العزلة عن الواقع: أغرب المقررات مثالا

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

هل الجامعات متصلة بالواقع ولديها مرونة وقدرة على التغيير للاستجابة إلى عامل التطور في الاهتمامات التي يحملها الطلبة؟ أم أنّها تسير وفق أنماط ثابتة تُركز فيها على تلبية متطلبات الوظيفة التي سيشغلها الخريجون وفق خُطط نادرة التغير؟ إنَّ السبب الذي قادني إلى طرح هذه الأسئلة هو إيميل من أحد الطلبة بإحدى الجامعات العُمانية يشتكي فيه من تجاهل اهتماماتهم وميولهم والأشياء الجديدة التي يُمكن أن تمنحهم خبرات جديدة في الحياة أو أن تبني وعيهم حول قضية تستقطب اهتمامهم، ويسأل هل كل الجامعات في العالم تعيش هذه العُزلة عن الواقع وإحضار قصصه وغرائبه وحكاياته إلى الفصول الدراسية وطرحها بأسلوب علمي يستفيد منه الطلبة، ويجعلهم يعون أشياء كثيرة عن مُجتمعهم وحياة أفراده بدلاً من أن يظلوا يتعلمون حتى في المُقررات الاختيارية أشياء مجردة وبعيدة عن هذا الواقع، مما لا يُثير دافعيتهم للتعلم وويقودهم أحياناً إلى الفشل، كما يرى حيث يُعطي مثالاً على مقرر اختياري في تعلم إحدى اللغات الجديدة على الطلبة الذين اضطروا إلى التسجيل فيها، أو أنّها مقررات ذات مضمون يمكن أن يقرأه الطالب في كتاب أو أن يسمعه في مُحاضرة أو أنها تعالج قضايا لم تعد تهم أحداً، عند هذا الحد أتوقف في سرد بعض من مضامين الرسالة الطويلة لهذا الطالب، لكن أشير إلى عبارة مؤثرة جداً ذكرها في النهاية حيث يقول: "الجامعة مكان لكسر العزلة المعرفية والاجتماعية لا مكانا لصناعة هذه العزلة وترسيخها".

 

بعد أن تأملت هذه الرسالة ومضامينها وجدت نفسي أيضاً أتساءل لماذا تخلق الجامعات وغيرها من مؤسسات التعليم عزلة لطلبتها نتيجة عدم توفير بعض من المواضيع والقضايا التي يمكن أن تجعلهم مندفعين للتعلم، وتطلق الخيال لتفكيرهم، وتجعلهم أكثر قابلية للإبداع حين يتعلمون أشياء لها صلة بحياتهم، وتمنحهم تعلم خبرات هم في أمس الحاجة إليها، مثلاً مُقررات عن العمانيين على شبكات التواصل ومدوناتهم وتغريداتهم خلال كل فصل دراسي، التسويق من خلال الانستجرام، السحر في عُمان وحكاياتهم وما قيل حوله، الإتيكيت العماني مقارنة بالإتكيت المعاصر، ظاهرة الكرك في عُمان وتطور الشاي وأنواعه وريادة الأعمال فيه، الأزياء في عُمان وكيفية صناعتها والمواد والمناطق التي تنتشر فيها، فرق التطوع تشكيلها وكيفية عملها، ومخلفات النخيل وكيفية بناء منتجات منها، والفن من خلال النفايات، أو الأسرة العمانية وقضاء وقت الفراغ ، أو برنامج السياحة في بلادي الذي بث خلال فترة زمنية معينة، أو السبل العمانية، أو أنواع التمور في عمان وصناعة بعض المُنتجات منها، هل يمكن أن تتاح للطلبة فرص لدراسة مثل هذه المقررات الغريبة في مضامينها؟.

للإجابة عن السؤال السابق وعن تساؤل الطالب صاحب الرسالة عملت على البحث عن موقف جامعات عالمية من تقديم مثل هذه المقررات الغريبة في مواضيعها، وجدت مجموعة من الجامعات قرَّرت أن تفتح فرصاً لمتعة  التعلم، وأن تركز على صلتها بالواقع والأمثلة التي وجدتها كثيرة منها المُقرر الذي تقدمه جامعة أوهايو عن هاري بوتر لتلبية اهتمامات الطلبة بأدب الفانتازيا حيث يطلب من الطلبة خلال المقرر قراءة جميع أجزاء هذه القصة، وهناك مقرر عن مصاصي الدماء في الأدب والسينما تقدمه جامعة ويسكونسن مقررًا دراسيًّا بعنوان "مصاصو الدماء في الأدب والسينما" ولا يتضمن عينات من الدماء أو أبحاث معملية،  فالهدف منه هو القضاء على الصورة السلبية الثقافية لأوروبا الشرقية من خلال تحليل الفلكلور الخاص بها وصورة مصاصي الدماء في الأدب والسينما، وتقدم جامعة تكساس مقررا بعنوان " اللغات المبتكرة: كلينجون وما بعدها"، وكلينجون هي اللغة التي استخدمتها الكائنات غير البشرية الخيالية التي ظهرت في فيلم ستار تريك الشهير وقد كانت هذه اللغة محط اهتمام ونقاش وبحث خلال أعوام كثيرة مضت.

أما جامعة ويسكونسن فتقدم مقرراً بعنوان "مسلسلات النهار: العائلة والأدوار الاجتماعية" يقوم الطلبة فيه بمشاهدة هذه المسلسلات بغية  تركيز اهتمام الطالب على كيفية تصوير أدوار الرجال والنساء في العائلة والعمل، ومقارنة كل ذلك بما يعرض في مسلسلات أوقات الذروة ليلًا أو أوقات السهرة، وتذهب جامعة سانتا كلارا إلى الأغرب حيث تقدم مقرر "بهجة النفايات" حيث يقوم الطلبة بالبحث في القُمامة وتحري ما بها وكأنهم علماء آثار يبحثون عن كنز مفقود، وتقدم جامعة كاليفورنيا مقرر "علوم الأبطال الخارقين" حيث يتعلم الطلبة مبادئ الفيزياء الحقيقية من خلال القوى الخيالية التي يستخدمها أبطالهم الخارقون مثل الرجل العنكبوت وسوبرمان وباتمان، كما تدرس جامعة إكسافيير مقرر بعنوان "تاريخ الخنازير في أمريكا" يركز على تاريخ الخنازير خلال الزمن بالإضافة لطريقة وصفها وتمثيلها في الأدب والكيفية التي ينظر بها إليها المجتمع، كما يقدم مقرر في جامعة فاندربيلت حول مسلسل شهير هو "المفقود" حيث يشاهد الطلبة المسلسل ويتم النقاش حول كل حلقة من حلقاته. وتقدم كلية كولومبيا وجامعة بالتيمور مقررا حول "الزومبي" أي الموتى الأحياء في الثقافات الشعبية وتأثيرها على  الشعوذة في بعض المناطق مثل هايتي.

إنَّ الدافع وراء سعي هذه الجامعات إلى ابتكار أساليب ومقررات غريبة في مضامينها بعض الشيء هو إثراء بيئة التعلم بالمُتعة والفائدة والخيال، وكسر حدة التعليم التقليدي الذي قد يصادر مثل هذه الاهتمامات التي تحفز التفكير في الواقع، ورسالة مثل هذا الطالب وغيره تستحق الاهتمام من قبل القائمين على مؤسسات التعليم العالي، وما استعرض هنا من أمثلة لما تقوم به جامعات العالم من تلبية لاهتمامات الطلبة ليس دعوة للتقليد إنّما دعوة للتفكير في التغيير، لأنَّ الإبقاء على مُقررات لعقود رغم ضعف استجابتها للواقع يُعبر عن نزعة مُحافظة لا شيء يبررها.