هل لا يزال وقت المقال مواتيا؟

 

د.عبدالله باحجاج

 

تقدم دائما الهيئة العامة لحماية المستهلك كل القرائن والدلائل على أنها النموذج الذي ينبغي أن يعمم، وأنه – أي النموذج - الصالح لزماننا، والملائم لحالتنا العمانية، وأنه - أي النموذج - الذي ينبغي أن نراهن عليه الآن، لضمانة الحقوق والواجبات، وكسب المواطن، كما أنها تفتح الآفاق السياسية، لكيفية تجويد أداء المؤسسات – المترهلة – وتحديثها، كما أنها ترسخ القناعات في أنّ العلة ليست في المؤسسات ككيانات سياسية، وإنما في فاعليها، وأنّ اختيارنا للفاعلين، من حيث قدراتهم وإمكانياتهم، هي الشغل الشاغل الذي ينبغي أن يتصدر الاهتمامات السياسية الآن، ولماذا الآن؟ لطبيعة المرحلة الوطنية التي تشهد تحولات غير مسبوقة في كل المجالات.

إنّه نموذج يحظى بالرضا الاجتماعي "المطلق" وهذا حالة عمانية بل عربية نادرة، واستثنائية، والمدهش فيه، أنه صناعة عمانية خالصة (100 %) من رأس الهرم الإداري إلى مختلف مستوياته الإدارية؛ عمانيون يصنعون تاريخا كونيا من منطلقهم الداخلي، فأبهروا الخارج، واعترف لهم بالريادة والسيادة على غيرهم ممن سبقوهم في مجال الفضاء الإلكتروني خاصة وحماية المستهلك عامة، لن نرجع للماضي، فقد تناولنا كل إنجازاتها، الداخلية والخارجية، لكننا سنشير إلى تتويجها مؤخرا بجائزتين في مسابقة الحكومة الذكية العربية وذلك عن "تطبيق دليل المستهلك الإلكتروني" و"برنامج تواصل" في القاهرة، ماذا يعني هذا؟ يعني أن نجاح الهيئة في حماية المستهلك قد انتقل من الأرض عبر الكشف عن الجرائم والمخالفات إلى الفضاء عبر خداماتها الإلكترونية، والجائزتان تعنينان تميزا لافتا لهذه الخدمات، فكيف تفوقت الهيئة في المجال التقني على نظيراتها من المؤسسات العربية العريقة رغم عمرها الزمني البالغ ست سنوات؟ وهنا ينبغي أن نوضح مسالة مهمة، وهي أنّ تفوقها الإلكتروني لم يأت من منظور استخدام التقنية المعاصرة لحماية المستهلك فقط، وإنما كذلك التجار، كيف؟ فدليل المستهلك الإلكتروني، هو أحد التطبيقات الإلكترونية الناجحة التي صممتها الهيئة لتخدم المستهلكين والتجار بالسلطنة لتبادل البيانات والمعلومات، وهذا ينفي تهمة انحيازها للمستهلك، ويعلو من شأن انحيازها للقانون أينما يكون الخطأ، ويتمتع الدليل كذلك بعدة مزايا وخصائص تهم وتخدم المستهلك كالتعريف بدور الهيئة وأخبار ونصائح وإرشادات الهيئة، والتعرّف على أسعار المواد الاستهلاكية بمختلف محافظات السلطنة وبالمحلات التي يشملها مسح الهيئة، كما يمكّن المستهلك من إنشاء السلة الاستهلاكية التي يحتاجها ومعرفة المكان الأرخص لهذه السلة، كذلك يمكّن المستهلك من تقديم الشكوى إلكترونيا ومتابعتها مع الجهات المختصة حسب الموقع الجغرافي لمكان الشكوى‪.

هذا النموذج العماني المشرف، هل ينبغي أن يدعم، ويتوسع في صلاحيته، ويعمم مؤسساتيا أم نعمل على تقليص صلاحياته؟ هذا التساؤل ينقلنا إلى التوجهات الحكومية التي يبدو أنها قد وصلت إلى مراحل متقدمة أو نهائية في إسناد مسؤولية تطبيق قانون المنافسة ومنع الاحتكار في بلادنا، بدلا من أن تكون تابعيته لهيئة حماية المستهلك وفق صلاحيتها القانونية الحالية، تنقله إلى إحدى الوزارات الحكومية، وتتحدث المصادر عن انتهاء هذه الوزارة من تأسيس مديرية عامة خاصة لهذه المهمة، وهذا انتزاع صلاحيات جوهرية من الهيئة، مما يبدو هذا غريبا لنا، وهو يرجعنا إلى الوراء كثيرا، فكيف تسحب هذه الصلاحيات منها في ظل نجاحاتها الكبيرة؟ والمقارنة الموضوعية تستدعي بالضرورة نفسها هنا، لدواعي الاقناع المُلح برهاناتنا الوطنية على الهيئة، وهي أي المقارنة، تضعنا أمام حقبتين، الأولى عندما كانت حماية المستهلك ضمن اختصاصات وزارة التجارة والصناعة، والثانية، حقبة إنشاء هيئة عامة مستقلة عام 2011، لن نستدل بأية نتائج، فهي معلومة بالضرورة للكل، وبالتالي يمكن القول إنّ سحب هذه الصلاحية من الهيئة إلى الحكومة سيفقد قانون المنافسة ومنع الاحتكار مبدأ حيادية تطبيقه، وفقدان هذه الحيادية يتعارض كذلك مع دولة القانون والمؤسسات التي قطعت فيها بلادنا خطوات دستورية وقانونية كبيرة، ومن أهم أركان هذه الدولة، توزيع الصلاحيات بين المؤسسات في البلاد، فهناك سلطة تشرع، وأخرى تنفذ، وأخرى مستقلة تراقب، وأخرى تشكل مرجعية حاكمة للخلافات والاختلافات بين السلط والمؤسسات أو بين الأفراد، ومؤسسات مجتمع مدني ورأي عام تعمل كوسيط بين المؤسسات الحكومية والعمومية والخاصة، بنيان هذه الدولة القانونية متوفر في بلادنا الآن، لكننا، وفي الوقت الذي كنا نـأمل ونطالب بالفعالية وبمزيد من الاستقلالية والصلاحيات بين تلكم البنيات، ترجعنا تلك الخطوات إلى الخلف كثيرا إلى ما قبل عام 2011، وهي مرحلة استفراد السلطة الحكومية لوحدها، بصناعة القانون وبتطبيقه، وهذه مرحلة يفترض أنّها قد ولّت، أو ينبغي أن تكون كذلك، فاحتكار السلطة التنفيذية لوحدها صياغة التشريع وتنفيذه في آن واحد، يعني أنّها تستفرد الآن بالسلطة مطلقة في مجالين من أهم مجالات هيئة حماية المستهلك، ويدخلان في جوهر بواعث إنشائها، من هنا، فكل الأسئلة نستدعيها للحظة الزمنية الفارقة، ونطرحها سياسيا، فماذا سنخرج من الإجابة على كل الأسئلة؟ ليس هناك سوى نتيجة واحدة فقط، وهي أن هناك قوى اقتصادية كبيرة (...) قد نجحت أخيرا في مساعيها القديمة/ الجديدة الحد من صلاحيات هيئة حماية المستهلك بعد ما فشلت في إقصاء رئيس الهيئة من منصبه، وقد كان لنا مقال منذ سنتين تقريبا حول هذا الموضوع، وقد شكلنا من خلاله رائيا عاما ضد إقصاء الكعبي، لكننا قلنا في حينها، أنّهم لن تنقصهم الحيلة، وقد توصلوا أخيرا إلى حيلة الالتفاف على الهيئة، عبر سحب صلاحيات متابعة تطبيق قانون المنافسة ومنع الاحتكار، فهل فات الأوان على استدراك هذه الخطوة؟ لا يمكن ترك تقليص صلاحيات الهيئة، فهو من بين أهم الإنجازات التي تم تحقيقها منذ عام 2011، فقد قدمت أفضل النماذج في إعادة كسب المواطن والدفاع عن حقوقه، والكل يعرف إنجازاتها، ولنا فيها عدة مقالات، وهي وأبطالها على مختلف مستوياتهم الوظيفية يدخلون في حروب يومية من أجل الدفاع عن مصالح المواطن/ المستهلك عامة، ضد التجار المستغلين للقمة العيش وتطلعات المواطنين، فكم من سلع فاسدة، وأسعار مرتفعة وسيارات وقطع غيار غير صالحة أو مغشوشة... إلخ قد اكتشفتها الهيئة، وكسبت فيها أحكاما قضائية، وعوّضت المواطنين أموالهم التي سرقت منهم نتيجة الفساد والاستغلال، وبمجرد أن يلوح المواطن/ المستهلك بخيار اللجوء إلى الهيئة، ترتعد الأرض من تحت أقدام مثل هؤلاء التجار.

فهل نتوقع أن تترك الهيئة تمضي في مسيرتها المظفرة دون أن تواجه أمامها عراقيل كثيرة، واجهت ثم واجهت.. لكنها كانت تنتصر دائما، لأنّ الكعبي وقيادته لديهم تفويض سامٍ، ويشعرون بقوة دفع معنوية غير مرئية تعاضدهم وتساندهم، ولأنّهم مؤمنون بأنّهم يجب أن يتصدوا بوطنية لكل فاسد لا يريد خيرا للوطن والمواطن، وأكبر دافع قد لمسناه فيهم عن قرب، شعورهم الرفيع والأصيل بوطنيتهم التي تربطهم بهذه الأرض ومحتواها الديموغرافي، من هنا، فلو ترك قانون المنافسة ومنع الاحتكار للهيئة تتولى مسؤولية تطبيقه سيختفي الاحتكار من بلادنا، وستسبح الأسعار في فضاءات قدرات المواطنين وخياراتهم، مما سوف يقل من ثراء المحتكرين؛ لأنّ نجاحات الهيئة خلال السنوات الست الماضية قد هزّت عروش الثراء غير المشروع، فكيف لو استلمت ملف الاحتكار في البلاد، وقضيّة سحب الصلاحيات، يبدو لنا من خلالها واضحا طبيعة الصراع بين الإرادات في بلادنا، وهذا من حتميات حياتنا المعاصرة، وهو كوني بالدرجة الأولى، لكن، المثير في نسختنا العمانية، قدرة السلطة الاقتصادية العميقة في تمرير إرادتها بالتقليص من صلاحيات الهيئة، فكيف أقنعت صانع القرار خاصة وأن إنشاء مديرية عامة جديدة لها تبعات مالية، والظرفية المالية للدولة لا تسمح بالتوسع وإنما بالتقليص، كما أنّ هناك مؤسسة جاهزة، فلماذا هذا العبء المالي؟ فهل هذا المقال لا يزال وقته مواتيا أم أنّ التطورات الأخيرة قد حسمت المسألة لصالح تلك السلطة الاقتصادية؟.