دار الوراق.. الريادة في المسار الصعب

 

د. سيف المعمري

 

اكتب هذا المقال من قلب معرض مسقط للكتاب في دورته الثانية والعشرين، هذه الدورة التي تعد بدون أدنى شك بداية عهد جديد  لأسباب عديدة منها عقد المعرض في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض الجديد الذي يعبّر عن المرحلة التي وصلت إليها البلد من نمو وتحديث في جميع المجالات، وكذلك للبرنامج الثقافي الذي قدم خلال المعرض كان كبيرًا مقارنة بما كان يجري في الدورات الماضية، علاوة على أنّ عدد الإصدارات العمانية في تنام يُعبّر عن معرفة تتحرك ومؤلفين يكتبون. هذا الحراك المعرفي يعطي مؤشرا على أن مستقبلا آخر يتشكل للكتاب في هذا البلد الذي يجب أن يحتفل بميلاد أي كاتب أكثر من احتفال الزوجين بميلاد أول طفل لهما، فالمجتمعات بدون كتاب مجتمعات لا ضمير لها والمجتمعات بدون تراكم معرفي لا قوة تستند إليها، تظل آيلة لكل شيء.. مُعرّضة لأخطار فكرية لا تقل في تأثيرها عن الأخطار الاقتصادية والسياسية.

أقف في هذا الزاوية أشاهد شيئا آخر جعل من هذا المعرض مختلفا، بوابة ثقافية تفتح أبوابا جديدة ليمر منها الفكر العماني والقارئ العماني لا تسأل المارين عن نوعية الدعوات التي يحملونها هل هي عادية أم "في آي بي" فالثقافة هي للجميع، ولابد من مراعاة هذا الحق وتبيينه.. لأنّ في ذلك عمل من أجل بث السعادة في الآخرين الذين يقرأون والذين يكتبون، كنت أشاهد نضال مؤسسة دار الوراق زينب الغريبية كل يوم في محاولاتها لجعل الثقافة أداة لتحقيق السعادة بدلا من جلب الشقاء، السعادة التي تنبع من نشر كتاب أو من قراءته، لذا أعدّت كل ما تستطيع لهذا المعرض ومؤسستها لم تكمل العام الأول، أعدت 180 إصدارًا وما يزيد على 22 فعالية واحتفلت بـ 34 توقيعا، وأصدرت خمسة أعداد من مجلتها الإلكترونية "دفاف"، فضلا عن العدد الكبير من الأطفال والشباب والكبار الذين نجحت في بناء جسور ثقافية معهم سواء كانوا داخل المعرض أو خارجه؛ حيث تصلهم التغطية الإعلامية اليومية للدار في مختلف شبكات التواصل الاجتماعية، كانت تراهن على اللاممكن أكثر من رهانها على الممكن، ونجحت في تطويع اللاممكن لتجعل الممكن أكثر ثراء.. صنعت من الحدث العادي الذي يأتي كل عام للكثيرين خبرات ولحظات لا يمكن أن تُنسى، حيث الأثر والصنيع الجميل لا يمكن أن يُمحى.

أعرف أنّها من النادرين الذين يسعون إلى إيجاد المعنى في أحلك الظروف، سواء كانت ظروفًا ناتجة من ضغوطات عملية خاصة، أو كانت ظروفا عامة مرتبطة بأوضاع اقتصادية يمر بها الجميع، تجعل المراهنة على العمل بالثقافة وصناعتها راهنًا خاسرًا، حيث ينفق الجميع بسخاء على أي شيء إلا الثقافة، ويدفع ثمن أي شيء إلا الكتاب الذي يصر أن يأخذه مجانا متكرما على مؤلفه أو الدار التي أصدرته، لكنّها أصرت أن تتحدى هذا الواقع بإرادة قوية، وجعلت من الظروف الحالكة عامل قوة تدفع به نافذة كبيرة يمكن أن يتسلل منها ضوء يكفي للجميع لكي يشعروا أنّ الثقافة لا غنى عنها للإنسان.

كنت شاهدا ولا أزال شاهد عيان على العمل المضني الذي تقوم به من أجل مختلف المشتغلين بالمعرفة مِن مؤلفين وباحثين وقراء وجماعات أدبية وأطفال وباحثين، تصر على قيم الاحترام والالتزام والدقة والمهنية والشفافية والمصداقية؛ تأسيساً لمؤسسة لا تتناقض مع الرسالة التي تعمل من أجلها "لنصنع عمان مفكرة"، تعمل لساعات لا يحدها طول النهار ولا ينقصها قصر الليل، ولا تؤثر فيها مستويات الكتاب والمؤلفين وأمزجتهم، فالمهم أن يُنجز العمل بشكل متقن، وإن حدث أي خلل لا تهرب من مسؤوليتها، فالحق حق، والخطأ الخارج عن الإرادة يجب أن تتحمله؛ وإن كان لذلك تبعات مادية إضافية تتحملها.

كل ذلك قادها ومؤسستها لتكون رقمًا مُهمًا في معرض مسقط للكتاب، وإن كان من بطل يختار لهذا المعرض كما تفعل المؤسسات الرياضية، فهي تُعد البطلة لهذا المعرض؛ لأنّها قدمت برنامجا ثقافيا لم يشهد أن قدمته دار نشر من قبل، كما أنّها تُعد الرائدة الوحيدة في مجال الاستثمار في الثقافة، حيث اتّجهت عكس المسار الذي تمضي فيه كثير من رائدات الأعمال اليوم، والمضي في مسار مختلف لم يأخذ منها وقتا كثيرا للتفكير. لقد قررت ما تؤمن به.. لكنّها أخذت عهدًا على نفسها ألا تكون نسخة مما يقوم به الآخرون من المشتغلين بالثقافة، فهي ترى أنّ الاستثمار في الثقافة يختلف عن المتاجرة بها، ولذا وضعت قيمًا أساسيّة لعمل الدار بالشفافية والمصداقية واحترام المؤلفين مهما كانت أعمارهم أو مستوياتهم، قررت ألا تكون طباعة الكتاب هي الهدف النهائي إنّما بداية لهدف أكبر هو تمكين الجميع من حق المعرفة؛ حيث تفتح حوارات ونقاشات حوله وتُوّظّف من أجل تحقيق الاستنارة للجميع.

لم تراهن من أجل التميز وتحقيق النجاح على الأسماء وإنما على المضامين وصناعة المؤلف ووضع الثقة فيه، ولذلك رغم نشرها لعدد من كبار الأكاديميين من داخل عمان وخارجها لم تغلق أبواب الدار في وجه الموهوبين من الشباب الباحثين الذين لم تُبنى طموحاتهم الثقافية بعد وما زالت الثقة في بداياتها عندهم، فعملت على مساعدتهم وتحفيزهم وقادتهم نحو تلك الثقة وإلى تحقيق أعلى المبيعات في المعرض رغم أنّها التجربة الأولى لهم؛ ومن ضمن الأمثلة على ذلك رواية ناجية الوادي، والكتب الأولى لبرنامج المؤلفين الصغار، والتي حققت أعلى المبيعات، بالإضافة إلى كتب أخرى أصدرتها الدار؛ مما يعني أنّ الدار تعمل على صناعة كتب تنافس وتحظى باهتمام كبير.

 

لا شك أنّ هذه الريادة الثقافية كان لها صدى ليس فقط داخل الحدود وإنما خارجها، حيث يصل نشاط الدار عبر الجسور التي مدّتها من خلال نشر ما تقوم به لكي يكون رسالة معرفية للآخرين؛ حيث يعلق الدكتور أحمد الحسين من السعودية على ما تابعه من مبادرة دار الورّاق الثقافية بقوله "قلّما شاهدت وأنا من المتابعين للمعارض الخاصة بالكتب أنّ دار نشر تتفرغ للشأن الثقافي والتعريف الأدبي والتثقيف المتنوع في وقت المعرض الذي يكون بغرض البيع وجني الأرباح نظرا لقلة رواد شراء الكتب"، لكن ما لمسه الدكتور أحمد يعبر عن رؤية عميقة للدار لا تحركها المتاجرة بالكتاب وإن كان له ثمن؛ وإنّما النهوض بصناعة ثقافية تشمل الكتب وغيرها وصولا إلى بناء مجتمعات آمنة معرفيا؛ كما هي آمنة سياسيًا واقتصاديًا.