حميد بن مسلم السعيدي
الكتابة هي النور الذي يستشرف مسارات المُستقبل، وهي ثمار نتاج استغلال العقل في استنباط الأفكار، التي تُلهم القُراء المنهجية الفكرية التي تُساعدهم على التعلم بما يقودهم نحو التطور والتَّقدم، ولا يُمكن الاستغناء عن الكتابة والتأليف في كافة المجالات الأدبية والفكرية والعلمية، لما لها من أهمية عظيمة في إحداث التغيرات الإيجابية لدى المُجتمع، لذا فإنَّ الاهتمام بها يأتي في أولويات الدول المُتقدمة، التي تدعم الإنتاج الفكري والأدبي والعلمي، لما له من دور مؤثر في تقدمها وتطورها في مُختلف المجالات.
وتُعد المواطنة من المواضيع التي ألفت حولها العديد من الكتب والدراسات البحثية، وذلك لارتباطها بالتنمية البشرية والإنسانية، وقد مرت المواطنة بالعديد من التطورات في مفهومها وأبعادها ومبادئها، حيث إنِّها حظيت باهتمام كبير من الباحثين والدارسين، وعقدت حولها الكثير من المؤتمرات والندوات العالمية، لما لها من أهمية في تقدم الشعوب والحضارات؟.
ويأتي كتاب "نهج المواطنة، مسارات لبناء المُستقبل" إضافة جديدة للمكتبة العُمانية في مجال المواطنة، حيث تضمن في فصله الأوَّل قراءة فكرية في خطب وأقوال جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم. والمتطلع لهذه الخطب والأقوال السامية يجد نفسه أمام منهج تربوي في مجال المواطنة، والذي تضمن توجيهاته للتَّربية على قيم المواطنة وحث المواطنين على الانتماء لهذا الوطن، والتَّمسك بالعادات والتقاليد والمنجزات الحضارية، والعمل من أجل المصلحة الوطنية الخالصة لعُمان، والإخلاص والأمانة في العمل، والتَّمسك بالعقيدة الإسلامية كمصدر لتنظيم شؤون حياتنا، وما يؤكد اهتمامه بمخاطبة شعبه من خلال مصطلحات مرتبطة بالمواطنة "أيها الشعب، شعبُنا العزيز، أيها المواطنون، أيها الإخوة المواطنون، يا أبناء عُمان" مما يُعطي دلالة على مدى ترسيخ فكر المواطنة لدى جلالته وكيفية تربيته لأبناء عُمان، والتي حاول جلالته من خلال هذه الخُطب توجيه شعبه بها" يا أبناء وطني، الدرب شاق وطويل ولكن بالجهد والمُثابرة سوف نصل إلى هدفنا بأسرع وقتٍ بإذن الله"، مما يُؤكد على رغبته في توجيه المواطن نحو العمل لأجل مصلحة عُمان "إن أي عمل لا يقصد به المصلحة العامة ولا يقوم على أساس خطة مدروسة هو عمل مُعرَّض للفشل".
كما تضمن دعوته لحُب الوطن والتمسك بالعقيدة الإسلامية "إن رقي الأمم ليس في علو مبانيها ولا في وفرة ثرواتها وإنما رقيها يستمد من قوة إيمان أبنائها بالله، ومكارم الأخلاق وحب الوطن والحرص والاستعداد للبذل والفداء في سبيل المُقدسات، إنه منهج في التربية على قيم المواطنة فحرص جلالته على ترسيخه في أبناء عُمان من خلال لقاءاته بهم أو ما تضمنته تلك الخُطب والأقوال، في كل مُناسبة وطنية يلتقي فيها بالمواطنين.
انطلاقاً من هذا الفكر المستنير لدى جلالة السلطان قابوس بن سعيد المُعظم، جاء هذا الكتاب ليُقدم في هذا الفصل قراءة في رؤية جلالته في بناء المواطن العُماني، وفكره في نشر السلام العالمي، ومبدأه في بناء علاقات الصداقة مع كل دول العالم، معتمداً على منهجية جلالته في توجيه أبناء شعبه الأوفياء، مما انعكس على بناء الهوية الوطنية العُمانية الثابتة لدى كل عُماني، حيث كان التوجيه السامي يُنبه إلى أهمية العمل والإخلاص من أجل الوطن، من خلال التوجيه الخطابي نحو المواطنين الأوفياء، وهذا الوفاء لعُمان يتطلب ليس التعبير عن الحُب بالكلمات والأقوال، إنما يتجلى من خلال ما يبذله المواطن في سبيل وطنه مقدماً المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصة، ومؤكداً على أنَّ الوطن يأتي في أولويات الاهتمام السامي والذي يفترض أن ينعكس على المواطن الفاعل.
كما تضمن الكتاب في فصله الثاني الحديث عن فكر ومبادئ المواطنة مشتقاً أفكارها من خُطب وأقوال جلالة السلطان قابوس في بناء المنهجية الحقيقية لدى المواطن الوفي، فالمواطنة هي شعور الفرد بحبه لوطنه، واعتزازه بالانتماء إليه، واستعداده للتضحية من أجله، وإقباله طواعية على المشاركة في خدمة المجتمع سواء أكان مشاركة فردية أو جماعية، من خلال الدور الذي يقوم به في المؤسسات والجمعيات الأهلية والمهنية، والقيام بالأعمال التي تتطلب منه خدمة الوطن بما يتمتع به الفرد من حقوق وواجبات يفرضها عليه ذلك الانتماء، وكل مواطن لديه ما يمتلكه من مقومات تعزز المواطنة وتدفعه للعطاء من أجل الوطن.
لذا فإنَّ الإيمان العميق الذي غرسه جلالته في أبناء وطنه، يجب أن يتجسد من خلال أفعالهم التي تسعى للنهوض بعُمان، فهو ليس كلمات عابرة نهتف بها في المُناسبات، وإنما علينا التَّعبير به من خلال قيامنا برسالتنا الوطنية، هذه الرسالة التي تتجلى في الإخلاص والأمانة من أجل عُمان، من خلال التَّجرد من حُب الذَّات والعمل من أجل مصلحة الوطن، فكلما وضعنا نصب أعيينا هذا الوطن كان العمل خالصاً له، وعلينا أن نُؤمن أن أعمالنا كلما كانت صالحة، فهي جزء من إيماننا بالله عزَّ وجلَّ، هذا الإيمان الذي ارتبط بالعقيدة الإسلامية التي رسخت في قلوبنا المعنى الحقيقي للإيمان بعيداً عن النزوات الذاتية، فاكتمال الصورة الحقيقية يأتي من خلال التَّكامل بين الإيمان الروحي للوطن، والإيمان الديني بالعقيدة الإسلامية.
فالمواطنة كفكر مُتأصل في البناء الذاتي تركز على الكثير من الجوانب المتعلقة بحياة الفرد كمواطن، والتي تتطلب منه القيام بها لتحقيق المواطنة الصالحة أو الفاعلة، ومنها ما يتعلق بعلاقته بالأنظمة السياسية، أو ما يتعلق بالمشاركة المجتمعية ودوره الفاعل في المجتمع، وهي كفكر سائد ورسمي لدى الدول الغربية تركز على تواجدها في دساتيرها الرسمية، وكل ما يتعلق بالحقوق والواجبات والمعارف والقيم والاتجاهات التي تخلق المواطن، إلى جانب تركيزها على مجموعة من الأبعاد حيث تضم البعد القانوني، والبعد الثقافي، والبعد السياسي، والبعد التربوي، والبعد الاجتماعي كلها تنضوي تحت ذلك المفهوم، وتركيزها على مجموعة من المبادئ الأساسية كالانتماء الوطني، والهوية الوطنية، والحقوق، والواجبات والمسؤوليات، والمشاركة المجتمعية والسياسية، كل ذلك يتم تضمينه في الشخصية الوطنية الفاعلة، وهو ما تحتاج إليه الدول حتى تحقق أهدافها، حيث تعتبر المواطنة أداة لتطور الدول.
وانطلاقاً من ذلك يقدم هذا الكتاب رؤية في بناء المواطنة في نفوس النشء انطلاقاً من منهجية جلالة السلطان قابوس بن سعيد، والفكر الحديث في المواطنة الفاعلة والمسؤولة، مما يضع أمام الجميع مجالاً للتعلم في كيفية غرس المواطنة وتنميتها لدى الأبناء، بحيث ينعكس ذلك من خلال سلوكاتهم الوطنية.