د. صالح الفهدي
قليلون همُ الذين أثَّروا في حركة التاريخ، وأداروا دفة التغيير في مجرى أنساقه، وأحداثه. لم ترتفع أصواتهم بقدر ما ارتقت أفكارهم. قليلون همُ الذين يُعملونَ العقل في المسلمات، والمتوارثات، ويسبرون بمجسات النقد المنقولات، فيثيرون الأسئلة الجديرة بأن تُسأل، ويحركون سكونية الأذهان وبلادة الأفهام بالأسئلة الوجودية الرامية لتحقيق الكرامة الإنسانية التي ترقى بالإنسان عن سائر المخلوقات كما أراده الخالق عز وجل حين علَّمه الأسماء كلها.
الدكتور عدنان إبراهيم علمٌ بارزٌ في ركاب هذه الكوكبة القليلة من البشر الذين جرى وصفهم فيما تقدم، ولستُ أنا أو غيري من يضعه، بل وضعهُ علمهُ واجتهاده وهمة نفسه وطموحه العظيم الغايات. أقولُ ذلك وأنا ممن كنتُ -ومازلتُ- أبحثُ في خبايا النفس العربية المسلمة، وفي طوايا الخطاب الديني عن المناقب والمثالب، بعد أن استفحل في الأمة الداء، وأعجزها البلاء، ونأى عنها الدواء..! بعد أن تهشمت شظايا، وقد كانت كالمرآة الصقيلة اللامعة..! بعد أن كانت ذات وهجٍ حضاري عمَّ العالم شعاعهُ، فأصبح مهوى العقول قبل القلوب لأنه خاطبها بالمنطق والمعقول، وباللين والرحمة لا بالإكراه والإقسار.
الأمةُ التي أضحت -في عصر العلم والفضائيات المفتوحة- عدوة الحوار إذ يضيقُ به صدرها ولا يحتملُ بعضُ "روادُ منابرها" و"قادة خطابياتها" و"نجوم فضائياتها" منطق الدكتور عدنان إبراهيم، فإذا بهم يكيلون التهم، ويدعون بالنقم فيصدمون العقل الراشد الذي يحدث نفسه بالقول: إن كان هذا هو مستوى الخطاب لدى حملة الهداية للبشر المفترضين، ورُسل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه، و"أهل الذكر" فيه، فكيف بالناس من مختلف مشاربهم وثقافاتهم؟
نعلم يقينا أننا لسنا أتباع دينٍ يعصُمُ مجتهدا ما -دون أن يمس بأُسس العقيدة البيِّنة- من خطأٍ في الاجتهاد، أو يعاقبهُ ويجرِّمهُ إن هو تجرأ على تفسيرٍ ما، أو الاعتراض على تأويلٍ ما، بل نحن في دينٍ يثيبُ المجتهد بالأجر إن هو أخطأ، ويدفعهُ إلى إعمال العقل، وإشعال التفكير -وفق أدبياتٍ وحدود واضحة- لكي يتأصل فيه فهمُ الدين. إن مثوبة الأجر هذه تعني تشجيع الإسلام للاجتهاد مع صدق وإحسان النوايا. لهذا؛ كانت خطابيات الدكتور عدنان إبراهيم ترمي إلى إعادة قراءات ما اعتبر "مقدسا" لا يجوزُ المساسُ به من روايةٍ، وحديثٍ، وتفسيرٍ، وتراثٍ فقهي؛ فكان هذا وجها من وجوه الهجوم عليه من قبل بعض الذين "خدروا" الأمة بالنقل، وعطلوا فيها العقل، وارتضوا لها خطابية صلحت لزمانٍ ولم يشبها التجديد. خطابية اعتمدت على الترهيب من العقاب، والعذاب قبل الرحمة والرأفة..! خطابية ترى آثارها في قسمات الوجوه الحادة، الجامدة، والملامح المكفهرة، والعيون الحانقة!
لهذا؛ لم أستغرب أن ينتشر مقالي المعنون "علموهم" في أصقاع ممتدةٍ من العالم العربي من المغرب إلى مصر واليمن، ويستمر في الدوران لأكثر من عامين، فقد كوَّن في نفسي انطباعا لا مرية فيه: أن الأمة بحاجة إلى تغيير في الخطاب، تغيير يخاطبُ العقل لا يؤجج العاطفة، ويكتبُ بقلم الرحمة، لا بمخرز العذاب..! وهذا ما يفعله الدكتور عدنان إبراهيم في خطابيته التي تنيرُ الأفهام، وتقودها إلى الإجابات الشفيفة المتزنة في سياقٍ يعمقُ فيها روحانية الإيمان.
لقد خرجتْ جماعات إرهابية من عباءة التطرُّف، إما عن طريق "أمواتٍ يحكمون أحياء" بتعبير الدكتور عدنان إبراهيم، أو عن طريق من يتلبس عمامة الدين، وهو مصدرُ الفتنة، وأساسُ الداء، والبلاء..! فما الذي تغير في الخطاب الديني؟! ظهرت القاعدة، وظهر التنظيم الأخطر في التاريخ "داعش"، رافعا في يده رايته السوداء بشعارها المقدس "الله أكبر"، وفي اليد الثانية سيفا أو سكينا أو قنبلة..! وما زالت مجاري الفكر التضليلي التكفيري سيالة تتدفق، وما زالت أنيابها تفرزُ السم الزعاف..!! ودون محاججة، فإن أساس التطرف معروف، وبين على أنه في الأفكار وليس في الأفراد..! لكن المعركة -ياللحسافة- تدورُ حول الأفراد، وتتركُ الأفكار لتفقس وتلد..! ومن هنا، تأتي أهمية الطرح الذي يتبناه الدكتور عدنان إبراهيم، لينير العقول المضللة، وليقلب في التراث الديني مغربلا بالنقد ومقارنا بما أُنزل في دستور الأمة الأقدس "القرآن الكريم" ليخرج مدعما بالحجج والبراهين مناقضا هنا، ومؤيدا هناك.
لقد أسْهَم اغترابُ الدكتور عدنان إبراهيم في أوروبا لأكثر من ثلاثين عاما في تحرره من قيود المسلمات التي لا تقبلُ التشكيك من عادات وتقاليد وأعراف على أنها دين، فتمكن -في ظل مندوحةٍ من الحرية وعمقٍ من الاجتهاد- من نقد تراث الأمة الإسلامية، أو قُلْ تخصيصا ذلك الذي عطل حراكها الحضاري، وقيدها في مراسغ الجهل والتخلف..! لهذا؛ فإنه حين عُرض عليه فتح قناةٍ فضائية لفكره اعتذر، وأقدر ذلك بأن اعتذاره كان حماية لهذه الحرية التي ينعم بها، والتي لن تكتمل عناصر الرسالة بدونها، كيف وهي الأساس!!
الأمة إذن بحاجةٍ للدكتور عدنان إبراهيم وأمثاله المجددين لكي ينيروا سبيلها في ظل وجود متنمرين على الفضائيات، أججوا النعرات، وأثاروا الطائفيات، وتعصبوا للمذهبيات، وجعلوا الدين شيعا وجماعات، مخلفين وراءهم قيم الدين العليا، ومقاصده الشريفة، فإن اجتمعوا قرأ قارئهم "واعْتصمُوا بحبْل الله جميعا ولا تفرقُوا واذْكُرُوا نعْمت الله عليْكُمْ إذْ كُنتُمْ أعْداء فألف بيْن قُلُوبكُمْ فأصْبحْتُم بنعْمته إخْوانا وكُنتُمْ علىٰ شفا حُفْرةٍ من النار فأنقذكُم منْها كذٰلك يُبينُ اللهُ لكُمْ آياته لعلكُمْ تهْتدُون" (آل عمران: 103)، وإن غادروا غدروا!
الأمة بحاجة إليه وأمثاله بعد أن تمدد ما يسمى بـ "التطرف الإسلامي"، فأصبح أجندة كل ساعٍ إلى السلطة في الغرب ليس أولهم ترامب في أمريكا، ولا آخرهم لوبين في فرنسا..؟! ذلك التطرف الذي ربط اسم الإسلام به وهو منه بريء؛ إذ قامت له دولةٌ على حد السيف، ورايةٌ على مناكب الحيف!
الأمة بحاجةٍ إليه وأمثاله وقد خبتْ روحانية الدين في قلوب الكثيرين، وأصبحت العبادات تقام كطقوس دينية خالية من الروحانية؛ ذلك لأنهم وجدوا آباءهم يؤدونها فسلكوا طريقهم، طائعين غير سائلين، فاعلين غير واعين، فاسأل المصلين عن معاني صلاتهم، والحجاج عن مغازي مناسكهم، والصوَّام عن حكمة صيامهم، ستستقبل إجابات موروثةٍ، مهلهلةٍ، سطحية..! وانظر إلى أحوال الناس، ومصالحهم، وعلاقاتهم، وطرقاتهم، ستجدُ فيها الانفصامُ بين قيم الدين وحياة الواقع!
الأمة بحاجةٍ إليه وأمثاله في زمنٍ الفتاوى الغريبة التي تثيرُ السخرية، والاستهجان..! فتاوى رجعية تصدرُ في زمنٍ تتنافس فيه الأمم على الريادة المعلوماتية، واقتصاد المعرفة، وثورة الذكاء الاصطناعي.. هل ترانا نعيشُ في القرن الواحد والعشرين؟! هل الأحرى بنا أن نقول بأننا "نتواجدُ" فيه ولسنا "نحضر"..؟! علما بأن التواجد غير الحضور فهذا الأخير تفاعل ومشاركة ومنافسة، أما الأول فهو انكفاءٌ وانغلاقٌ بحسب وصف الفيلسوف مالك بن نبي.
الأمة بحاجة إليه وأمثاله مُجددا في قراءة التراث الفقهي، وناطقا بحداثةٍ تخاطبُ العقل، متوسمة لغة معاصرة، ذات مفردات حية معاشة، بعد أن عُطل الاجتهاد، وطغى التقليد، واستوطن الركود والخمود الأذهان.
الأمة بحاجةٍ إليه وأمثاله بعد أن جُرد الدين من جوهر معانيه، والعقيدة من مقاصدها العليا، فأصبح الدين لحاء شكليا، لا مضمونا جوهريا، وأصبحت معايير الهيئات الظاهرة مقاييس للورع والتقوى والتدين، في الوقت الذي أُهملت فيه المعاملات، وضاعت فيه الأخلاقيات وهي عصبُ الدين، وأركانه الركينة..! وصار الحديثُ عن صغائر اللمم أولى من قضايا الأمم، وعظائم القيم!
الأمة بحاجة إليه وأمثاله لكي يكشف عن مدى هشاشة الفكر الذي يضيق ذرعا بالاختلاف، والحوار، ويرفعُ صوته لا مطالبا بالتجديد وإعمال المنطق وحسب، بل والانغماس من أجل البرهنة على ذلك بالحجة والدليل، وإعادة قراءة الموروث، ودفع الأمة إلى مراتب العطاء والنماء.
لم نتحدث عن شخصية الدكتور عدنان إبراهيم وقدراته العلمية وبلاغته وحنكته في الخطاب وتسلسل أفكاره، وإلمامه بمفاصل موضوعه، وتنوع ملكاته؛ فالرجل قد هيأ نفسه لهذه المهمة، وأعد نفسه إعدادا جهيدا، ولكن حديثنا كان في ضرورته كحالةٍ أو كتيارٍ تنويري تحتاج له الأمة العربية الإسلامية التي غرقت في إشكاليات حضارية تحتاجُ إلى رجال مثله يفيقونها من سباتها العميق، ويخرجونها من خيالاتها الهائمة، وأحلامها الوردية، واستغراقاتها الماضوية.
وإذا كانت مجتمعاتنا العربية الإسلامية جادة للنهوض، وعازمة نحو التغيير، فإنَّها يجبُ أن تنصت لأصواتٍ كصوت الدكتور عدنان إبراهيم، وعليها أن تستلهم من فكر قامته العلمية، وأن تكون عونا له ولأمثاله من أصحاب التوجهات المعتدلة لإصلاح الخطاب الديني من جراء ما لحق به من التشظي، وإحياء الاجتهاد من حالة التردي، وحين ذاك ستتخفف من كثيرٍ من أثقالها، وستنظر إلى المستقبل بتفاؤل أكبر منطلقة بالقيم السامية التي رسخها ديننا الحنيف في مشرقه السني.