وشهد شاهد (1)

 

 

عيسى بن علي الرواحي

   أقسمَ بالله العظيم أن يقول الحق، وألا ينطق إلا بالصدق أمام العدالة، وهكذا فعل من جاء بعده، وقد كانت شهاداتهم مطابقة لبعضها، ومطابقة لما جاء في الوثائق والمستندات المعروضة.

 

كانت شهادته بحضرة أبيه، وضد ما يدعيه، ولكنه لم يكن يسيرًا عليه أن يشهد بالحق وينطق بالصدق مخالفاً لهوى أبيه ومراده، بيد أنَّه آثر الدين على الدُّنيا، والصدق والحق على الزور والباطل تاركاً وراءه الأبوة جانبًا، فالحق أحق أن يُتبع مهما كان ثمنه، وأياً كانت نتيجته، وعلى حساب كائن من كان (ولو كان ذا قربى).

 

 وقد يقول قائل: أما كان من الأولى والأجدر بالابن أن يعتزل هذا الأمر برًا بأبيه، وإن كان يعلم ما يعلمه من الحق والحقيقة؟ إذا كان الأمر كذلك فكيف سيتعامل الابن مع قوله تعالى: (... وَلَا تَكْتمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [سورة البقرة : 283] وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة النساء : 135]؟!

ومع القول بأنَّ الشهادة فرض كفاية، لكنها في نفس الوقت تجب على من طلبت منه إن كان على علمٍ بها، ولا أظن أنَّ الابن يجهل ما يعمل به، أو أنه يرى في شهادته عقوقًا لأبيه، بل يراها برًا ونصرة له انطلاقاً من قاعدة نبوية " انصر أخاك ظالما ومظلوما" ونصرة الظالم بنصحه وقول الحق في وجهه، وعدم الركون إليه، فالابن يخشى على أبيه أيما خشية أن يدخل في بطنه حرام، أو أن يستولي على حق ليس بحقه؛ لذا كان من الواجب منعه من تجاوز حده والوقوع في المحظور، إضافة إلى امتثال أمر ربه بما أوردنا من أدلة شرعية، فكانت تلك الشهادة.

ومع كونها شهادة حق، فهي أيضاً شهادة بر لا عقوق كما أفتى بذلك أهل العلم.

  إنَّ المرء يجب عليه ألا يكتم شهادة يعلمها إذا طلب منه ذلك؛ ففي إقرار الشهادة إحقاقٌ للحق ونصرةٌ له وامتثالٌ لشرع الله تعالى، يقول الله تعالى: (...وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا...) [سورة البقرة : 282] على أن تكون هذه الشهادة لله وحده مبتغياً بها وجهه منتصرا فيها للحق ومبرزا فيها للحقيقة بحيث يقرها الإنسان طاعة لله تعالى لا تستجديه فيها قرابة ولا عاطفة ولا صلة ولا أي اعتبار آخر، ولا يمنعه من الإقرار والإدلاء بها عداوة عدو أو خوف مسؤول أو غير ذلك يقول الله تعالى (...وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [سورة الطلاق : 2] وحتى تكون الشهادة لله  يجب أن يكون صاحبها عدلاً ثقة في شهادته مع القريب والبعيد والعدو والصديق فهو يشهد بالحقيقة التي يعلمها بغض النظر عن المشهود له، يقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]، أي: لا يحملكم بغضهم على ألا تعدلوا فتشهدوا بالحق.

 

ولا ريب أنَّ شهادة العدل يجب أن تبنى على الحقائق الثابتة بما رآه الإنسان وعلمه بيقين وثبات لا تساوره فيها شكوك ولا ظنون ولا احتمالات بل لا بد أن يكون مطمئناً لما يشهد به، واثقاً تمام الثقة من صحة ما يقول ويُدلي بمعلومات وأقوال مثل ما أنّه يرى الشمس في رائعة النهار وإلا فلا يشهد كما أوضح ذلك العلماء، وفد استدل أو أستأنس بعضهم بإسناد ضعيف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لرجلٍ: ((ترَى الشمس؟))، قال: نعم، قال: ((على مثلها فاشْهَد أو دَعْ))... هذا وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.

 

 

 

issa808@moe.om