حصانة الفكر

 

 

عبد الله العجمي

"إنّ ديننا الحنيف جاء لأجل العقل والفكر ولم يأتِ أبدًا لمصادرة الفكر في أي وقت من الأوقات".

كلمات بسيطة قالها سلطان البلاد -حفظه الله- خلال زيارته لجامعة السلطان قابوس قبل ستة عشر عاماً لكن لا يزال صداها يتردّد في مسامعي حين شدد على أهميّة العلم "النافع" والمعرفة وطالب الجميع بأهميّة متابعة مستجدات العلم بكل السبل المتاحة بذهن "متّقد" على أساس من التدبر والتجربة لأخذ الصالح المفيد و"ّترك" ما لا طائل من ورائه.

كلمات يفترض أن تدرس في مناهج مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إذ يُعدّ سلاح الفكر من أخطر الأسلحة في زمننا هذا.. ولو أسقطنا هذه القاعدة على مجتمعنا العماني لرأيناه - الآن- بحاجة إلى زيادة جرعات الوقاية من الحملات الممنهجة المضادّة؛ فكرية كانت أو ثقافية أو حتى تراثية.. تلك الحملات التي تحاول اختراق فكرنا والتسلل إلى عقولنا بشتى الأساليب والطرق.

نعم نحن بحاجة إلى وقفة من مثقفينا ومفكرينا الذين يزينون سماء ساحتنا العمانية؛ كل ذلك من أجل حماية أبنائنا فكرياً وثقافياً، فعقولهم أحيانا ربما تقف عاجزة عن القيام بنقد المعطيات والأفكار التي تردهم، وتحاول أن تقلب المفاهيم الصحيحة والأسس العلمية لديهم.

ولكيلا نلقي كل اللوم على مثقفينا أو نتنصّل من مسؤولياتنا فحريٌّ بنا أن نعترف أنّ هذه المهمة تبدأ أساسًا من البيت فالمدرسة فالمجتمع. علينا مثلا أن نحاول تشجيع الحوار والاستقراء المنطقي للأحداث والانتقاد المؤطّر في إطار الخلق والأدب واحترام الآخر؛ غارسين في أذهانهم البعد عن التجريح وتوزيع الاتهامات اعتباطا، وألا يفكّروا ولو مجرد تفكير أن يحاسبوا النّاس على أساس نواياهم ومعتقداتهم. كل ذلك يساعدنا بشكل مباشر في تطعيم أبنائنا تطعيماً يحمل مناعة فكرية ضد أفكار التعصّب الفكري والتطرّف السلوكي، فالعقل البشري لا يمكنه الوصول إلى تمييز الأحداث وفلترة الأفكار دونما وجود منهجية فكرية راسخة يقيّم من خلالها ما يرد إليه. فكما أنّ العين البشرية مهما كانت صحيحة فإنّها لا تستطيع رؤية الأشياء إلا بوجود النور فكذلك العقل؛ لا يمكنه رؤية الأشياء على حقائقها إلا إذا كان مليئاً بالمعرفة.

ومن الضروري أن نعي أنّه مهما أحاط العقل البشري بالكثير من المعارف والمبادئ فإنّ إحاطته هذه تظل قاصرة، لذا فمن الضروري علينا ألا نحدّه فيما نُغذيه؛ بل نطلق له العنان لسبر أغوار المعرفة بعد أن نغرس فيه حب القراءة والمطالعة والمعرفة. ولنتركه ينطلق من أساس معلوم وثابت من أجل أن يصل إلى مجهول لا يُخاف منه عليه، فبالعقل الواعي المنهجي التفكير والمنطقي الاستقراء؛ يمكنه أن يشق طريقه -وكله اطمئنان- في عالم يسوده العنف والتعصّب ويمكنه رسم طريقه للمستقبل مستقلاً بنفسه في تفكيره ووعيه ورسم طريق مستقبله ومستقبل بلاده وأمّته.

في واقعنا الذي نعيشه نرى أنّ البعض من شبابنا يظن أنّهم محيطون وملمّون بواقع الصراعات وحقيقة المشاكل الدائرة في عالمنا؛ رغم أنّه ليس لهم اختصاص لصيق بماهية هذه الصراعات وفهم مسبباتها وأهدافها الخفيّة، فواقعنا الحالي شبيه بالهلّام بين يدي الطفل يُشكله ويصوّره كيفما يشاء، يظنّ الطفل أنّه قد احتواه وسيطر عليه. لكنّه في المقابل لا يزال الهلّام الذي بين يديه يحنّ إلى طبيعته الخاصة ويحتفظ بها رغم قالبه الجديد أي أنّه قالب خادع. كحال واقعنا الذي باستطاعته الاحتفاظ بغموضه وتعقيده، كلّ منا يراه حسب قراءته وحسب تأويله من خلال زاويته وهذا مكمن صعوبة الإحاطة به والجزم به.. ولأعطيكم مثالاً حياً على دقة كلامي فلتسألوا خمسة من المثقفين عن حقيقة أسباب وأهداف ما يحصل حولنا من صراعات.. أكاد أجزم أنّكم ستستمعون إلى خمسة أطروحات وتحليلات كل منها يختلف عن الآخر فلكل منهم نظرته واستقراءه لذات الصراع.

عوداً على بدء؛ فإننا وبتأمل واقع بعض الشباب في دول الجوار وبعد أن غُرست بعض الشُّبَه في عقولهم والتي أدت بدورها إلى استنتاجات بعيدة عن المنطق والواقع، ثم يستفيق ذلك المجتمع على فاجعة قتل ابن لأبويه بلا رحمة ولا تردد؛ إنّ هذا وحده لمدعاة لنا جميعاً لاستدراك المسببات التي أدت إلى ذلك، والتصدي لها كلّ حسب موقعه وقدراته. إذ لا بد من تأصيل بعض المبادئ في عقلية النشء العماني والتأكيد عليها كحرمة الدم والعرض، والتعامل مع الناس بظاهرهم وانتهاج منهج حُسن الظن بهم، ولنحذرهم من مجاهيل ينتحلون صفة العلماء مهما امتلأت أفواههم بزَبَد الفصاحة والخطابة والحماس.. فكلما ازداد ابتعاد مجتمع ما عن الحقيقة؛ كلما زادت كراهيته لمن يتحدثون بها.. فلنتيقّظ!!