البيئة الحاضنة للابتكار

حميد السعيدي

يساهم الابتكار في تحقيق النمو الاقتصادي وزيادة فاعلية الإنتاج، ويسعى نحو تقدم المجتمع ومعالجة العديد من مشكلاته وتحدياته. ويأتي الابتكار في أولويات اهتمام الدول المتقدمة، والتي تنفق مليارات الدولارات لدعم الابتكار؛ مما يساهم في معالجة العديد من التحديات التي يشهدها العالم، وتأتي هذه الأهميّة من كون الابتكار الأداة التي تسهم في بناء التقدم والتطور وبناء الحضارات، فالحركة العلميّة والابتكارية لا تتوقف عند مستوى معين، لذا نشهد اليوم تغيراً ملحوظاً في مختلف المجالات؛ نتيجة للدور الذي يقوم به الابتكار في صناعة المعرفة الحديثة والمتجددة.

ولا يمكن للدول أن تتنازل عن رغبتها في دعم الابتكار في كافة المجالات، فهو المورد الاقتصادي الذي لا ينضب؛ لأنّه ناتج عن تطور الفكر الإنساني، وما يحدث اليوم من تطور متسارع في مختلف المجالات الصحية والتقنية والصناعية دليل على أن حركة الابتكار لا تتوقف، ويأتي هذا الاهتمام نتيجة لتقدير مكانة أهمية العقل الإنساني باعتباره موردا اقتصاديا لابد من الاهتمام به والثقة في مقدرته على الاستغلال الأمثل للدعم الذي تقدمه الدول في مجال الابتكار، والكثير من دول العالم ومنها اليابان والصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية تركز اهتمامها على ابتكارات الشباب وتقدم لهم الحاضنات المتكاملة، والدعم اللوجستي من العديد من الخبراء بقصد الاستفادة من أفكارهم وتطويرها لتصبح قابلة للتنفيذ وذات جدوى وفائدة، فهي تعتمد على فرق العمل المنتجة والمفكرة والتي تنطلق من تقديم الدعم الهادف نحو الارتقاء بالأفكار الجديدة، فهي لا تترك فكرة مهما كان حجمها، حيث تخضعها للتجريب والتطوير حتى تصبح جوهرة فكرية مكتملة، إلى جانب الثقة الكبيرة التي تمنح للشباب في وضع أفكارهم قيد التطبيق والتجريب؛ مما يدفعها نحو ابتكارات اقتصادية فاعلة.

والدول التي تتصدر قائمة عدد براءات الاختراعات هي الدول التي تتصدر قائمة الدول الاقتصادية العظمى، "ففي تقرير للمنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة أشار إلى أنّ الصين تقود نمو الابتكار على مستوى العالم لتصبح أول دولة تقدم مليون طلب براءة اختراع في عام واحد، مشيرًا إلى أنّ المخترعين الصينيين تقدموا خلال عام 2015 بما يقرب من 1.011 مليون طلب اختراع معظمها في مجال الهندسة الكهربائيّة التي تشمل الاتصالات تليها تكنولوجيا الكمبيوتر وأشباه الموصلات وأدوات القياس بما في ذلك التكنولوجيا الطبيّة، وبلغ عدد براءات الاختراع الأمريكية 155 ألفًا و982، بينما جاءت اليابان في المرتبة الثالثة بعدد 54422 براءة، تليها كوريا الجنوبية بعدد 20201 براءة، ثم ألمانيا بإجمالي 17752 براءة اختراع".

ونجاح الاقتصاد يعتمد على المقدرة على التجديد والابتكار بصورة مستمرة بما يواكب متطلبات العصر، فهو عملية لا حدود لها ولا مقياس للوصول إليها، فالعالم الذي نتعايشه عالم متجدد ومتسابق نحو اقتصاد المعرفة الحديثة، والذي بدوره يولد حركة اقتصادية يسهم في معالجة التحديات التي تواجه الدول نتيجة لتوفير الفرص الوظيفية للشباب، ويُنوِّع في مصادر الدخل، لذا فمعظم الإشكاليّات الاقتصادية تعاني منها الدول آحادية السلعة، نتيجة لعدم الاهتمام برأس المال البشري.

فالشعوب التي لا يتجدد فكرها ولا تظهر إبداعاتها هي دول ميتة يضمحل وجودها ويبقى الوطن بلا قيم، ويفقد مكانته بين الحضارات المتقدمة، ويصبح الإنسان غير فاعل ولا مؤثر في حياته وحياة وطنه، وهنا يموت كل شيء وتبقى الحياة بلا معنى، لأن الإنسان خلق من أجل تعميرها وليس من أجل استنزاف خيراتها دون أن يكون هناك إنتاج معرفي ومادي يسهم في الاستخدام الأفضل لتلك الموارد الطبيعية، في حين أنّ المُجتمعات المتقدمة تقاس بمدى مقدرتها على مواجهة التحديات وابتكار الحلول واختراع المواد التي تسهم في تغيّر مجرى حياتها بصورة مستمرة.

وعُمان تمتلك كل الإمكانيّات التي تؤهلها لتصبح دولة ذات إنتاج معرفي واقتصادي وتقني وصناعي يساهم في  النمو الاقتصادي من خلال الاعتماد على الموارد البشريّة والاهتمام بنموها وتعليمها وتدريبها لتصبح قوة بشرية فاعلة، وقد كشفت المسابقة التي قامت بها جريدة الرؤية "جائزة الرؤية لمبادرات الشباب"، أنّ لدينا عقولا شبابية لديها الرغبة والطموح نحو الاستفادة من قدراتها العقليّة في خدمة الوطن، والعدد الكبير من الابتكارات الشبابيّة التي دخلت للتنافس للوصول إلى المنصّة يعطي مؤشرات حقيقيّة على أننا نمتلك القدرات العقلية، ولكنّها بحاجة إلى التعليم والتدريب والتطوير على التعامل مع الأفكار وترجمتها إلى واقع تجريبي وهذا ما يفتقده الشباب العُماني، والوصول إلى منصّة التتويج يعطي دلالة أنّ هناك أفكارا رائدة تستحق الاهتمام والمتابعة.

ولكن يواجه الشباب العُماني العديد من التحديات التي تفوق إمكانياتهم وقدراتهم على مواجهتها، فلا توجد البيئة الحاضنة لهم، ولا المؤسسات التي تتبنى مشاريعهم، ولا الخبرات التي تساعدهم على تطوير أفكارهم للوصول للبراءات التي تحفظ حقوقهم، فتصبح تلك المشاريع جزءا من الماضي ولا وجود لها، وتموت العقول المبتكرة ويصبح العطاء بلا أمل يفتح له طريق المستقبل، لأنهم بحاجة إلى العمل الفاعل وليس إلى الأقوال التي لا تخدم شيئا، فالشباب هما عماد الأمم وهم قادة الابتكار والتجديد والتنوير، والاهتمام بهم يجب أن يكون من أولويات الجهات المعنية بالشباب، وهذه العناية يجب أن تأخذ الواقعية التي تترك أثراً وتساعدهم على الإبداع والابتكار من أجل النهوض بهذه الوطن.

لذا فإنّهم ليسوا بحاجة إلى تلك اللجان التي تطل علينا في المؤتمرات بين الفينة والأخرى؛ وإنّما حاجتهم توفير الاحتياجات الأساسية التي تمكنهم من النهوض بأفكارهم وترجمتها إلى واقع ملموس قابل للتطبيق، ومن أولويات احتياجاتهم هو إنشاء البيئة الحاضنة للابتكار والتي يجب أن يتوافر فيها كل الدعم المادي واللوجستي الذي يعين الشباب على تطوير أفكارهم من خلال تواجد الخبراء المختصين بهذه الحاضنات، والاهتمام بالتدريب والتطوير لقدرات الشباب، إلى جانب حاجتهم إلى مؤسسة حكوميّة خاصة معنيّة بالإنتاج الصناعي بعد أن عزف القطاع الخاص عن دعم الشباب؛ تركز التصميم وتقديم الحماية الفكرية وحفظ الحقوق، والإنتاج والتصنيع والتسويق والترويج للمنتجات الابتكارية بما يتناسب مع احتياجات المجتمع.

لذا علينا الاهتمام بتعزيز ودعم الابتكار لأنّه السبيل الوحيد للنهوض بالاقتصاد الوطني وتنويع مصادر الدخل، وإيجاد أسواق دوليّة تنافسيّة قائمة على الإنتاج العالي الجودة؛ وهذه هي المنطلقات التي ارتكز عليها العالم المتقدم، فعندما نقرأ تجارب بعض الدول الآسيوية فإنّ نهوض الاقتصاد لم يمر عبر الطرق الممهدة ولكن واجهتهم العديد من التحديات حتى تمكنوا اليوم من التحكم في الأسواق العالمية، لذا فإنّ الاهتمام بالابتكار والمنتجات الفكرية يحتاج إلى عقود زمنية وإنفاق كبير فالنجاحات لا تأتي ثمارها سريعا وإنّما تحتاج إلى وقت طويل طالما أنّ العمل قائم من أجل الوطن.

[email protected]