معايير تنظم البيئة المحاسبية

 

 

عمَّار الغزالي

يتجاذبُ اقتصاديات عالم اليوم نظامٌ جديدٌ، مصحوبٌ بتطوُّرات مُتسارعة في مجال تكنولوجيا المعلومات.. وكغيرها من المجالات ذات الصِّلة، انعكستْ تلك التطورات التقنية على مهنة المحاسبة وكفاءة عمليات التدقيق الداخلي والخارجي، مُخلِّفةً جُملة من التساؤلات حول مصداقية وملاءمة التقارير المالية لشركات ومكاتب المحاسبة بشكلها الحالي، والآلية التي تُعدُّ على أساسها؟!! وظهرتْ حاجة ماسَّة لأشكال جديدة من خدمات الفحص/التدقيق، لتكون بمثابة صِمَام أمان أمام الهزَّات والدورات التي أشْعَلت فتيلها فضائح الانهيار الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية قبل عَقْدٍ من الزمان على وقع أزمة شبيهة في العام 2006؛ وانتشرتْ بعدها كفيروس ينشط بتزايد الترابط السياسي والاقتصادي بين دول العالم، أدَّى لإفلاس شركات مالية كُبرى ذهبتْ معها استثمارات دول وشعوب لا تستطيع فعل شيء سوى الدعاء بأنْ يقيها الله شر أزمات لاحقه.

إنَّ عَشْرَة أعوام مرَّت على الانهيار المريع لشركة آرثر آندرسون المتسبِّب الرئيسي في "أزمة إنرون"؛ وكذلك اعتراف شركة زيوركس بتضخيم الأرباح لديها بمقدار 4.1 مليار دولار؛ لم تكن كفيلة لأنْ يُعيد العالم حساباته بمعالجة الأسباب الخفية وراء تلك الأزمات. وكعادة كل هزَّة، انبرى الجميع للعمل على قدم وساق في أول شهرين أو ثلاثة، ثم خَلَدوا مرة أخرى إلى نوم عميق، دون أن يعي أحد أيًّا من مسبِّبات الانهيار التي نَتَجتْ بسبب فشل هذه الشركات في التقيُّد بالقوانين والأنظمة المحاسبية وأساليب الضبط لعملياتها، سواءً لضعف إداراتها أو تواطئها لصالح أغراض خاصة.

وكعلاقة تكاملية بين الطرفيْن، ينسحب الحديث عن تعزيز مُهمَّة التدقيق المحاسبي بشقيه الداخلي والخارجي، على حديث أعم وأشمل وهو حوكمة الشركات بدورها الرقابي، وما يتطلبه من آليات ووسائل تضمن التطبيق الجيد للمعايير والقوانين الملزمة سواءً داخل المؤسسة أو خارجها، تشمل ذلك جُملة من الأنظمة التي تُعزِّز فرص مُواجهة متغيرات بيئة الأعمال، وتحقِّق الأهداف المتوخاة من عمليات التدقيق، وتضمن استمرارية الفحص والتقييم لجميع أنشطة ووظائف المؤسسة؛ بما ينعكس إيجاباً على الأداء الإداري والمالي لمنظومة الاقتصاد الوطني ككل.

إلا أنَّ تراتبية الطرح تصطدم بموجة أكبر من التساؤلات حول ممارسات أعضاء مجلس الإدارة ومُدققي الحسابات والمحاسبين، وتستدعى تفنيدًا حقيقيًّا لنظام ومعايير ومؤهلات المحاسبة المالية؛ منها: منح الثقة المطلقة لأعضاء مجالس الإدارات، وكيفية تشكيل لجان الرقابة على تصرُّفات الإدارة، وآليات ترشيح واختيار المدققين الداخليين والخارجيين، والجهة المنوط بها تعيينهم بما يضمن استقلاليتهم وتفادي الوقوع في فخ التواطؤ بينهم وبين الإدارة واستفحال الفساد داخل المؤسسة، وهو ما يُمكن ملاحظة تداعياته السلبية من تفاصيل الانهيار الكبير لإنرون على سبيل المثال لا الحصر.

وبإسقاط عملي لتلك المعطيات على الواقع المحاسبي في السلطنة، وباعتباره جُزءًا من شبكة عالمية تؤثر فيه ويتأثر بها، تبرُز نقطة غاية في الأهمية، وهي أنَّه وفي ظل الجهود الحكومية الحالية لدعم وتعزيز بيئة العمل، والمساعي الدؤوبة لجذب واستقطاب استثمارات أجنبية جديدة ترفد خزانة الدولة؛ تبرز نقطة غاية في الأهمية؛ ألا وهي افتقاد الرقابة الكافية على عمل شركات التدقيق ومدى التزامها بمعايير وأخلاقيات المهنة، ولا تستدعي هذه المهمة استحداث جهة جديدة، بل من الممكن إسنادها لجهة قائمة مثل التجارة والصناعة أو مركز عُمان للحوكمة أو حتى جهاز الرقابة، شريطة تأهيل تلك الجهة بالكوادر الكافية، مع تزويدهم -وبشكل مستمر- بالمعارف والمهارات اللازمة لتطبيقها بكفاءة واقتدار، وتمكينهم من متابعة المستجدات النظرية والعملية والتطورات المحلية والدولية ذات العلاقة بمهنة المحاسبة والمراجعة والإلمام بها، ويكون على عاتق تلك الجهة صياغة معايير تضمن استمرارية فاعلية عملية المراجعة لضمان توافر البيئة الرقابية باستمرار، ومما قد يساعد على تحسين جودة التقارير وجود جمعية أو نقابة فعَّالة للمحاسبين القانونين تكون عينًا على شركات المحاسبة والتدقيق، سيما وأنَّ غياب المسؤولية القانونية للمراجعين الداخليين أو الخارجيين  مع وجود الصلاحيات التي يتمتَّع بها كلٌّ منهم، قد تنحرف بهم إلى مسالك ودروب لن تُحمد عُقبى تلاعباتها وسلبياتها بكل تأكيد. والجديد بالذكر أنَّ القوائم المالية للشركات العالمية التي أفلست كانت مُغطاة بعمليات تجميل تُخفي العيوب إلى حين حدث الانهيار الكلي للشركة.

وعليه، أعتقد أننا نحتاج قرع ناقوس الحذر؛ مُطالبين بإستراتيجية تطوير مُحدَّدة لمهنة المحاسبة والتدقيق في إطار المعايير والأخلاق المهنية المعروفة للمهنة، كما أنَّه من الضروري كذلك تنمية الوعي لدى مؤسسات وشركات القطاع الخاص بأهمية نظام حوكمة الشركات حتى محدودة المسؤولية منها، وأهمية الدور الذي يقوم به نشاط التدقيق الداخلي والخارجي في إرساء نظام حوكمة فعَّال وقادر على رفع جودة الأداء. إنني أتحدَّث عن مُراجعةٍ شاملةٍ كاملةٍ لتصحيح المسار من الداخل، خصوصا وأنَّ غياب الوعي عند بعض المؤسسات والشركات التي تعمل بنظام المركزية في اتخاذ القرار قد يكون سببا في تعميق الأزمة؛ مما يجعلها في خطر فعلي يكلفها ويكلف اقتصادنا الوطني الكثير

ammaralghazali@hotmail.com.