عن أخلاقيات السباق الانتخابي

 

 

عمَّار الغزالي

 

يتَّجه الأمريكيون اليوم للإدلاء بأصواتهم في انتخابات هي الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، بعد سباق محموم كِيْلَت فيه الاتهامات، وتنحَّت فيه أبجديات الدعاية الانتخابية وأخلاقياتها، بعدما بدا كل مرشح بعيدًا تماماً عن فكرة النقاش الجاد لقضايا مُلحَّة؛ سواءً ترامب اليميني "المتهوِّر" الذي لم يجد بُدًّا في "الهاكينج" على البريد الإلكتروني لمنافسته الديمقراطية هيلاري كيلنتون لإحراجها بإساءة استغلال المال العام فترة توليها حقيبة "الخارجية"، أو "التشنيع" بها على خلفية فضائح زوجها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، أو ما فعلته السيدة ذاتها الطامحة للقب "أول رئيسة أمريكية" من تسريب أو "تلميحات" مباشرة عن فساد ولا أخلاقيات "المهرِّج"، خلال مواجهات المفترض أن تُعرض خلالها برامج انتخابية "متزنة" تلتزم أدبيات مُحدَّدة؛ لتتحول الساحة الدولية إلى خشبة مسرح كبير لعرض "رواية هزلية"، لم يُرَ فيها أثرٌ لنقاشات تمس أوراق سياسِة أكبر محرِّك للملفات الدولية سياسيًّا أو اقتصاديًّا؛ باعتبارهما اللاعبين الأساسيين في حسم أية معركة انتخابية.. ليقودنا كلُّ ذلك إلى تساؤل غاية في الأهمية حول حجم الإرث الاقتصادي الذي سيتركه أوباما لخلفه، وكيف سيتعامل الرابح في انتخابات اليوم مع هذا الاقتصاد المتشابك، خصوصا وأنَّ الأوضاع الراهنة تنذر بكارثة كُنَّا نظنها اقتربت من "نقطة الحل" بعد اجتماع الجزائر الأخير، إلا أنَّ "الصلف والعناد السياسي" بين بعض الدول المنتجة للنفط أعادت الأزمة مرة أخرى إلى "المربع صفر".

المهم.. ومن خلال 3 مناظرات رئاسية متتالية، ورابعة لنائبي المرشحين، وحصيلة عام كامل من المنافسة حامية الوطيس التي أمضى فيها كلا المرشحين جُلَّ وقته للبحث عن "القذى" في سيرة حياة الآخر، تاركين المجال واسعًا أمام "ويكيليكس" ليخرج ما في جعبته؛ فيزيد المشهد إثارة واضطراباً، لم نجد أثرًا للاقتصاد الذي بدا وكأنه الحاضر الغائب في سباق انتخابي "لا أخلاقي".

وبما أنَّ أحدًا منهما لم يُولِ موضوع الاقتصاد الأهمية التي تتناسب وطردية العلاقة بينه وبين منظومة البناء، وإنما كانت سيرته هامشية في كافة الخطابات والتنظيرات، وحتى إذا ما ذُكر على استحياء، فإنما كان ذكره مُجملاً مائعاً لا يحتكم إلى خطوات واضحة المعالم يُمكن البناء عليها لاستكناه ملامح المستقبل؛ فحديث ترامب مثلا عن توجهه لخفض نسب الضرائب المفروضة على الشركات يفتقد في جوانب كثيرة منه إلى الرؤية الـ"ما بعدية"، بل يكاد يكون أشبه بتلميح إلى مستقبل أمريكي تحكمه سياسة اقتصادية "جمهورية"؛ تنحاز نعم إلى خفض الضرائب وتقليل الضوابط والشروط الإلزامية على استثمارات وشركات القطاع الخاص، إلا أنها تضع الاقتصاد في مهب "العمل بشكل حر"، وهي تقريبا نفس المقدِّمات التي آلت بالاقتصاد إلى هوَّة سحيقة في العام 2008.

وحسب مجموعة من الإحصائيات الاقتصادية التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، فإنه وحال فوز ترامب فإنه "وبعد سنتين فقط سيبدأ النمو الاقتصادي الأمريكي في الانخفاض بمعدل 0.3، وهو أعلى انخفاض قد يحدث للاقتصاد منذ حالة الركود الاقتصادي الذي ضرب الاقتصاد الأمريكي؛ فترامب يطمح إلى فرض الكثير من الضوابط والضرائب على التعاملات التجارية مع الصين؛ وإلغاء اتفاقٍ للتبادل التجاري أبرمه بيل كلينتون مع المكسيك، وهي خطوة قد تتسبَّب في توتر العلاقات بين الجارتين بعد أعوامٍ طويلة من التعاون الاقتصادي".

وعلى النقيض، فإنَّ سياسة الحزب الديمقراطي -الذي تمثله هيلاري- تعتمد على الحكومة في مسؤوليتها عن دعم الاقتصاد ودفعه، وخلق الكثير من فرص العمل دون الاعتماد على القطاع الخاص.. صحيح أنها لم تتعرض لكل هذا بشكل مباشر، إلا أنَّ اعتراضها على اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي أو "TPP" والتي تتيح حرية التجارة ونقل البضائع بين واشنطن ومجموعة كبيرة من الدول -منها: سنغافورة، فيتنام، تشيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، كندا، أستراليا- واعتبارها الاتفاقية تقتل الكثير من فرص العمل وتؤدي إلى نقص الأجور لمجموعة كبيرة من العاملين بالسوق التجاري الأمريكي، يشي بشيء اقتصادي مُقلق للغاية.

إنَّ علامات الاضطراب التي تظهر على برامج مرشحي الرئاسة الأمريكية اليوم، وغياب الطرح الصريح والمباشر والنقاش الجاد لجُملة الخطط والإستراتيجيات التي سيتعامل بها كل مرشح مع منظومة الاقتصاد خلال الفترة المقبلة، وحصر الإشكال في زاوية ضيقة جدًّا، ووضع حلول له "على الهواء" دون دراسة أو تفنيد، ومن وجهة نظر أحادية، كلها مؤشرات تنذر بمستقبل اقتصادي مخيف، في دولة تتشابك مصالحها مع الجميع وتتمدد أذرعها "الأخطبوطية" لتسيطر على منظومة اقتصاد تقبع تحته اقتصاديات دول العالم بمختلف مستوياتها: الأول والثاني والثالث؛ بما يضعنا -ما لم نبادر باستغلال الفرصة لصياغة رؤى مستقبلية أكثر متانة وتلاؤما للواقع، نحصِّن بها أنفسنا من ردَّات الفعل المتوقعة- أمام خيار الجلوس على مقاعد "المتفرِّجين" لنرى ما ستحمله الأيام القادمة من مفاجآت، قد تقلب الحسابات رأسا على عقب، وتكون خارج الحسبان!!

ammaralghazali@hotmail.com