الرؤية المستقبليّة للمجالس البلدية

 

حميد السعيدي

 

العمل الجماعي وبناء المُجتمعات الفاعلة كانت صفة مؤرخة في التاريخ العُماني على مرّ العصور، حيث أوجد العُمانيون نظاماً ديموقراطياً ناجحاً قائما على مشاركة الجميع في كل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، أثمر عن بناء حضارة عريقة؛ ارتبطت بعلاقات مميزة مع جميع شعوب العالم، استطاعت خلالها أن تكون دولة منتجة فكرياً واقتصادياً وسياسياً، وفقا لمنظومة ديموقراطية تعتمد على فاعلية مشاركة الرأي والرأي الآخر، والذي أسهم في استخلاص الآراء التي قادت هذا الوطن للكثير من الإنجازات والتي بقيت راسخة إلى هذا اليوم، ومما يدل على ذلك وجود العديد من المؤشرات والقراءات التي تثبت للجميع مدى فاعلية الإنسان العُماني ودوره الريادي في بناء حضارة حديثة.

فقد استطاع العمانيون بناء منظومة ديموقراطية تميّزت بقدرتها على الاستفادة من كل الإمكانيات البشريّة والموارد الطبيعية في بناء حضارة متقدمة تكيفت مع كل العصور، وتمثلت هذه المنظومة في المجالس البرلمانية العُمانية التي تنوعت حسب تخصصاتها ومستوياتها، وتمثل هذا التخصص في المجالس العليا التي ضمت العلماء والأئمة وهدفها تعيين الأئمة، والسلاطين، والمشايخ، وأصحاب الرأي والمشورة، ورسم السياسات والخطط للدولة، ثم تلتها مجالس الشيوخ والتي هدفت إلى الاهتمام بالتنمية العمرانية والموارد الاقتصادية وإدارة شؤون الولايات والتطوير العمراني، وبناء المدن العمرانية ومعالجة قضايا المجتمع، ثم جاءت مجالس الأعيان وهي تعتبر الأكثر انتشاراً، وهدفت للأخذ بالآراء والاستفادة من الخبرات والإمكانيات البشرية، وتسخيرها في عملية البناء العمراني والتعليمي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا التنوّع كان له الكثير من الإيجابيات التي أتاحت الفرصة للمشاركة الوطنية مما أثمر عنه الكثير من الشواهد التي تدل على العمل الحقيقي، فقد ظهرت المدن العُمانية وأثبتت جدارتها ووصلت للعالمية، فهناك في الشمال مدينة صحار بوابة الشرق، ومسقط الحاضرة العُمانية، وصور المدينة الساحلية على بحر العرب، وفي الداخل كانت مدينة الرستاق ونزوى وعبري، وفي الجنوب حيث الحضارة العريقة في ظفار وموانئها التي لعبت دوراً كبيراً في الملاحة العالمية، إلى جانب العديد من الإنجازات الفكرية والأدبية، والصناعات العمانية المتميزة، والمباني العمرانية كالقلاع العُمانية التي ظلت شاهدة على تطور الهندسة العُمانية، وتأتي الأفلاج لتشق أجسام الجبال لتتفجر بالمياه بصورتها الطبيعية، وتلك السفن الشراعية التي عبرت البحار والمحيطات ووصلت إلى أقصى الشرق والغرب، مما يدل على أن للديمقراطية العُمانية الفاعلة دورا فاعلا.

وفي العهد السامي لمولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم كان التجسيد الحقيقي للديمقراطية في العصر الحديث، وبناء الشراكة الحقيقية للمواطن العُماني الذي شمر عن ساعديه من أجل بناء هذا الوطن، فكانت المنظومة العُمانية قائمة على مجموعة من المجالس والتي أثبتت مدى تحقيق تلك الشراكة بدءا من مجلس الوزراء والذي يعتلي قمة الهرم في البلد، ثم تأتي بعده المجالس الأخرى؛ والتي أتاحت الفرصة لمشاركة المواطن، والمتمثلة في مجلس عُمان بشقيه مجلس الدولة ومجلس الشورى، وأخيراً على مستوى المحافظات الإدارية تأتي مجالس البلدية والتي أتاحت الفرصة الأكثر ليصبح المواطن محل الثقة والجدارة في مقدرته على إبداء الرأي وتقديم المقترحات، ورفع التصورات التي تسهم في رفد الحركة التنموية بأفكار بنائية وفاعلة. 

واليوم الوطن على موعد جديد في بناء منظومة جديدة، واختيار الكفاءات الوطنية القادرة على تمثيل الشعب بصورة إيجابية ومنهجية ووفقا لمجموعة من المعايير التي يتم على ضوئها اختيار أعضاء المجالس البلدية، والتي تمثل جزءا أساسيا من المنظومة الوطنية، وهي بلا شك في تجربتها الأولى حققت الكثير من النجاحات على مستوى الوطن، فقط أثبتت نضج الفكر الديموقراطي لدى المواطن، حيث كانت المشاركة كبيرة في صناديق الاقتراع، إلى جانب ذلك أوجدت هذه المجالس الرؤية الحقيقية للشراكة بين مؤسسات الدولة والمواطن، وذلك برفع التوصيات وتقديم المقترحات والآراء بكل ما يتعلق بالمشاريع التنموية بالبلد.

وتمثل المجالس البلدية في الدول المتقدمة من أساسيات المنظومة الإدارية للمدن، ويعتبر رئيس البلدية من الشخصيات النافذة، ولها المقدرة على رسم السياسات والخطط التطويرية وتصميم الرؤية الحديثة لها، لذا بالرغم من النجاحات التي تحققت للمجالس البلدية في دورتها الأولى؛ إلا أنّها بحاجة إلى التطوير في نظامها الأساسي للتوافق مع الرؤى الحديثة التي تتعايشها المجتمعات المتقدمة، من أجل المضي بنجاح وثبات نحو تحقيق الأهداف السامية التي رسمها بأني هذه النهضة المباركة، وبما أننا نسعى إلى الوصول بهذه المجالس على مستويات المسؤولية، فيجب اختيار الكفاءات الوطنية التي تمتلك المستوى العالي من التعليم، والمتخصصة في رسم الخطط والاستراتيجيات، وتمتلك مستوى عاليا من المواطنة الفاعلة، وقادرة على تحمل المسؤولية المجتمعية، والمبادرة للعمل الخير وروح التعاون البناء، وتمتلك الفكر والرؤية الحديثة القائمة على بناء المجتمعات المهنية القادرة على التطوير والبناء الحديث، وهذه المعايير يجب أن يدركها الناخب أولاً نظراً للمسؤولية الوطنية التي تقع عليها في اختيار المترشح، على أن تكون بعيداً عن النزعات القبلية والأسرية والمصالح الشخصية، والعلاقات الاجتماعية، لأن صالح الوطن هو الغاية الأساسية من هذه المجالس، والاختيار يمثل قرارا وطنيا يتحمل مسؤوليته المواطن.

هذا إلى جانب السعي لتطوير هذه المجالس لتصبح رئيس البلدية على مستوى الولاية، بحيث نخصص العمل بصورة أكثر، ونبتعد عن العمومية على مستوى المحافظة، وأن يكون شريكا في إصدار القرارات على مستوى تحديد نوعية الخدمات التنموية في الولاية، وعدم حصرها على مسؤول المؤسسة الخدمية، وخلق منظومة تنافسية بين الولايات القادرة على التطوير الذاتي والاستفادة من القطاع الخاص في تطوير الولايات خاصة قطاع المصانع، والمحاجر، والمزارع المنتجة، والعقارات، القطاع التجاري، لأن هناك نسبة ضريبة الدخل لخدمة المجتمع يجب تفعيلها بقانون يضمن الاستفادة منها في إقامة مشاريع تنموية في الولايات، فلا يمكن أن تستفيد هذه الشركات والمؤسسات من الموارد الطبيعية والبشرية في الولايات دون أن يكون لها دور في تطويرها، وفي ذات الوقت لا يمكن أن نعول على الحكومة أن تقوم بكل المشاريع التنموية في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة.

فالمسؤولية الوطنية التي يمتلكها المواطن العُماني تتطلب منا العمل والإخلاص من أجل عُمان خلال الفترة القادمة، لأننا بحاجة إلى أن يكون المواطن عنصراً بناءً، يقدم الرؤى ويبتكر المشاريع، ويبدع في التطوير الاقتصادي؛ لأننا نعيش مرحلة تعتمد على المنافسة والقدرة على الثبات والاستمرار في التطوير، بما يمكننا بالمستقبل أن تكون لنا الريادة في الإنتاج الصناعي المتقدم، فالأمل كبير في أن يكون لعُمان مستقبل رائد، لأننا نمتلك كل الإمكانيات البشرية القدرة على بناء التقدم الحديث، والماضي العظيم الذي نمتلكه هو مسبارنا لعبور المستقبل، وليس فقط للافتخار ولتمجيده، وإنما صورة من الماضي يكفي النظرة إليها لتعطينا الرغبة والحماس للمستقبل.

 

 

Hm.alsaidi2@gmail.com