لبنان.. تعدد لوحدة المصير

 

 

 

حمود بن علي الطوقي

 

 

في العام 2011م، أمر المقام السَّامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظم - حفظه الله ورعاه- بأن يتم اختيار مدينة بيروت عاصمة الجمهورية اللبنانية، لتكون هي الموضع الذي منه تنطلق رؤية جلالته تجاه العالم والحوار الإنساني بين أفراده، من خلال إنشاء (المركز العالمي لحوار الحضارات)، الذي منه يشعّ نور حوار يستهدف نبذ الطائفية وتغليب مسؤولية الحوار بهدف المصلحة المُشتركة للتعايش بين البشرية جمعاء..

 

لماذا اختار جلالته - حفظه الله - العاصمة بيروت لتكون مركز هذا الفكر التَّقدمي الحضاري مقارنة بغيرها من الأماكن التي شهدت متشابهاً ومختلفًا من الأحداث؟

خلال زيارتي الأخيرة إلى بيروت، رأيت المعنى الذي تتسع عنه الفكرة، وتنجلي به العبارة، متجلياً أمامي هناك، فعلى الرغم من وجود ثلاث ديانات، هي الإسلام والمسيحية واليهودية، وتحت مظلة هذه الأديان مجتمعة تنضوي 18 طائفة، وعلى الرغم من هذا التَّعدد الذي يوحي - منذ الوهلة الأولى - بالتنافر، مقارنة ببعض الأماكن العربية، غير أنّه في لبنان يُمكن سماع الأذان والأجراس في الوقت ذاته، والكل يذهب لأداء فروضه وفقاً لطائفته، وبعد الانتهاء من ذلك يعودون إلى ممارسة حياتهم في صورة إنسانية عالية مثلى .

 

في المقاهي والمجمعات التجارية وأماكن التجمع العامة، يسود الحوار السياسي، الذي يضم طوائف مختلفة في الانتماءات السياسية، التي هي تحت جناحين، هما 18 آذار و 8 آذار، وعلى الرغم من الرؤية العميقة لكل فرد في انتمائه لولائه السياسي من ناحية، واستماتته في الدفاع عمّا يؤمن به من ناحية ثانية، إلا أنَّ الجميع لديه رؤية واضحة، وهي العمل من أجل وحدة لبنان، العمل من أجل وحدة الصف اللبناني، العمل من أجل النهوض والاستمرارية الائتلافية بما يصبّ في صالح وحدة أمّة لبنان، بتعددها وطوائفها.

تقدر المراصد العددية اللبنانيين المهاجرين بما يقارب 20 مليون لبناني، جميعهم يعملون خارج لبنان، وتختلف مستويات مداخيلهم، ولكنهم - بكل الطرق المتحققة - يعملون من أجل خدمة لبنان، عبر إنعاش الاقتصاد بالحوالات المالية، ومن ثم تدفق النقد في الأسواق اللبنانية، من خلال المُقيمين في لبنان، وبالتالي تكريس المفهوم الاقتصادي هناك..

 

من زاوية أخرى، فإنّ الطباعة والنشر مسألة ذات بُعد تاريخي في لبنان، فأول مطبعة كانت في لبنان، أما حراك الطباعة والنشر فهو الأكثر حضوراً عبر عقود من السنين، فمن هناك خرجت المجموعات الشعرية والقصصية والروائية الطليعية في الوطن العربي، ومن هناك يبحر الكاتب/ الكاتبة لشق طريقه نحو المستقبل؛ فبيروت شكّلت مع القاهرة جناحًا نهضوياً للثقافة والفكر العربيين، وهذا يجعل من بيروت مناخاً لتجارة الطباعة والنشر، من خلال المناخ الإبداعي المختلف، وهو المناخ الذي يجعلها منارة فائقة السُّمو، وهذا كله يصبّ في صالح الاقتصاد اللبناني ..

 

أما الطرب والغناء فحدِّث عنه ولا حرج، ففي بيروت يتم صناعة المطرب، ويتم تصدير المغنّي، وهي تمثّل جناحاً تأسيسياً مهماً في الأغنية العربية مع مصر، بحيث إنّ وجود المناخ الإبداعي بقنواته المختلفة (مسرحيات، حفلات، مسارح، ذائقة فنية عالية)، كل ذلك ساهم بشكل ملفت في وضع البصمة اللبنانية في عالم الأغنية العربية، وهذا كله يصبّ في مصلحة الاقتصاد عبر بوابة السياحة، التي يبحث عنها العربي وغيره في الأماكن والأصوات والجمال المتحقق في مناخاته الجبلية والمدنية والساحلية، وكل ذلك يعبر من بوابة بناء لبنان الوطن، الوطن الذي يتسع للجميع .

 

لعل هذه الأسباب مجتمعة، هي ما جعل لبنان يكنّ للمقام السامي لحضرة صاحب الجلالة المعظم - حفظه الله ورعاه - وافر المودة والحب، نظرًا لبُعد نظر جلالته - حفظه الله - في رؤيته لما يُمكن أن يكسبه مركز حواري يرتجي من المكان النموذجي في الكرة الأرضية أن يكون مثالاً يُحتذى في إيصال رسالة السلام والتعايش، من خلال تعميق رسالته عبر المركز، محليًا على مستوى لبنان، وعالمياً على مستوى تبنيه الحوار الذي يليق بالتعايش بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما اختلف معه في الدين والطائفة والانتماء السياسي .