سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (48)

القيم العُليا

 

 

د. صالح الفهدي

 

 

يروي ديل كارنيجي في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة" عن شجرةٍ عملاقة يقارب عمرها أربعمائة عام تحدَّت العواصف والأعاصير والزلازل طوال هذه القرون، ولكن اجتمعت عليها بعض الهوام (حشرات صغيرة)، وحوَّلتها إلى ركام؛ حيث نَخَرت تلك الحشرات الصغيرة هذه الشجرة العملاقة، وحوَّلتها إلى مجرد أنقاض شجرة استطاعت الصمود في وجه أعتى الأعاصير والعواصف، ولم تستطع أن تصمد أمام جموع تلك الحشرات الصغيرة".

الشاهدُ من هذه القصّة أنَّ ما لا تهدّه المحن الكبرى، والدّواهي العظمى، قد تسقطهُ صغائرَ الأرزاء، وتوافه الأشياء..! كنتُ ذات مرّةٍ مشاركاً في إحدى الندوات التي تناقشُ القيم العمانية، وبعد أن تحدّثتُ عن الإشكاليات والتحديات الواقعية التي تواجهنا، تحدّث المشارك الآخر فأخذته نصرةُ القيم على النظر إلى الواقع، فإذا به يتحدّث عن أصالةِ قيمنا، وعراقةِ تقاليدنا، وفضال خصالنا، الأمر الذي بدا وكأنّه دحضٌ لما حسبه من زعم جاء على لساني..! فأجبتُ بالقولِ موضّحاً: أن حديثي عن التحديات والإشكاليات التي تواجهها لا تقلّل من قيمة الإرث المعنوي الذي شكّل لحضارتنا قاعدةً تاريخيّة ذات أمجاد، لكننا لا يجب أن نصبحَ ونمسي على هذا الاعتقاد الذي لا تتخللّه غائلةٌ، ولا تشوبه طائلة..! فالواقع بصغائره، وتوافهه يعمل -كما عملت حشرات الأرضِ مع تلك الشجرة المعمّرة- على نخرِ القيم الأصيلة التي تربّى عليها المجتمع، فتظهر صادمةً في أحوال الضعف الاجتماعي، والوهن السياسي، والإعتلال الأمني، والضمور الإقتصادي، والإضمحلال الفكري!

لم نكن نتحدَّث عن ضعف القيم العليا في مجتمعنا، ولكننا فعلنا ذلك في مطلع هذا القرن الواحد والعشرين خاصّة مع تدفق التيارات الجارفة التي خلطت الكثير من الزّيف، والغثث، فكان من شأنِ ذلك زعزعة "الشجرة الأصيلة المعمّرة" عبر ما تتغذى عليه الأجيال من شوائب تلك التيارات. وحين تحدثنا في فترةٍ سابقةٍ عن القيم انبرى لنا حفنة ممن رأوا في ذلك تهديداً أمام نواياهم الخبيثة لـ"نخر" الأركان السميكة للإرث الحضاري المتمثّل في القيم العليا..! يقول جلالة السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- في العيد العاشر المجيد: "كنا فقراء في كل شيء، لكن كنا أقوياء في أصالتنا وعقيدتنا وفي عزمنا وإصرارنا على النجاح رغم كل العراقيل والعقبات التي كانت تعترضنا".. هكذا كان للأصالةِ والعقيدة دورٌ رائدٌ في تغيير التاريخ، أمّا اليوم فعلينا أن نقرَّ بأن ثمّة العديد من الإشكاليات الجسيمة تواجهنا في بناءِ القيم العليا، وصيانتها، وترسيخها، لأننا نتقوّلها دون ممارسةٍ فعليّة بارزة، ونتفاخر بها دون تطبيقٍ عملي حازم..! لم تعد تلك الإشكاليات متعلّقة بالصورة الفضائية التي تتكالب بغثيثها وسمينها من كل حدب وصوب، ولا بالأفكارِ الممزوجةِ بالسمومِ السياسية، أو الأهواءِ الشبقة المنحرفة، ولا بالشعارات الخاويةِ التي تتقصّد الإنحطاط القيمي للإنسان وحسب، بل وأصبحت ماثلةً للعيانِ في شيوع التقليد الأعمى، وفي اضمحلال الوازع الديني، وفي نضوب النضارة الأخلاقية، وفي ظهور البؤر النتنة للنزوات المقيتة..!

يحدثُ كلُّ هذا دون أن يستشعر المجتمع بفداحةِ ما يحدثُ استشعاراً واعياً لما يخبئه جبل الثلجِ، إنما يجاهدُ الغيورين من أبنائه بين الفينة والأخرى وبلمحاتٍ خاطفة عبر بيانات احتجاجية لبعض الظواهرِ التي تنخرُ في "شجرة القيم الأصيلة" ثم تتبخرُ تلك البيانات الاحتجاجية لأنها لا تتحوّل إلى برامج واقعية، وسياسات ممنهجة تتبناها الأُطر الرسمية التي تمتلكُ المواردَ اللازمة للتقييم والتقويم..!

كيف تنخرُ هذه الحشرات الصغيرة "شجرة القيم الأصيلة" التي توارثها المجتمع وصقلت على قالبها هُويتها، وسبكت بها خصوصيته، وعرفت بها مميزاته وفضائله؟! يحدثُ ذلك بطرق غير محسوسة من التوافه صعوداً إلى العناصر الكبرى التي تشكّل الشخصية الإنسانية، والتي يعبّر عنها المهاتما غاندي خير تعبير في هذا التدرج الهرمي بالقول: "معتقداتك تصبح أفكارك، أفكارك تصبح كلماتك، كلماتك تصبح أفعالك، أفعالك تصبح عاداتك، عاداتك تصبح قيمك، قيمك تحدّد مصيرك"..! إذن فالقيم هي التي تحدّد مصير الإنسان ولكن ذلك يعتمدُ على المدخلات الأولى وهي المعتقدات التي تعني الحكم الذي لا يقبل الشكّ فيه..!

إنّ بناءَ الإنسان يستلزمُ أول ما يستلزم تزويده بالقيم العليا التي تتوائم مع الفطرة التي فُطر عليها، وتصقلها على منهاجها السليم، وهذا يتطلبُ العملُ من الصغر ثم التدرج عبر مراحل مختلفة بأساليب متنوعة تتجانس مع المراحل التي يمرُّ عليها عُمرياً. إشكاليتنا الكبرى تكمن في عدم اعتنائنا بالطفل العناية الصحيحة غير مدركين بأن شخصية الإنسان تتشكّل في أولى سنوات عمره المبكرّة، وغير مدركين كذلك أن نحو 85% من تصرفات أبنائنا وسلوكياتهم نشكّل نحن مصدرها..!! الطفل عندنا يكادُ أن يكونَ منسياً من البناءِ السليم وهو الأساس، بينما يرنُّ في آذاننا غالباً الخطابُ إلى الشباب..! فهل يستقيمُ العودُ بعد اعوجاجه إلا بعد معاناةٍ ومكابدة..؟!

التنظيرات وحدها لا تغني دون ممارسةٍ عملية، والخطابات لا تجدي دون تفعيلٍ في الواقع. يقول لي أحد المعلمين بأسلوبٍ يائس: إننا نعلِّم القيم للطلاّب ولكن لم يغيّر ذلك فيهم شيئاً..! فأجبته بالتأكيد لن تجدي الكلمات وحدها دون الممارسة، هذا خطأ في الإعتقاد بأن الكلمة وحدها تُجدي نفعاً، الممارسةُ بالتكرارِ، وتكريس العادات الإيجابية حتى تصبح قيمة لا تتجزأ من القيم الشخصية ثم قيمة اجتماعية تعد واحدة من المسلّمات الاجتماعية الأثيرة للمجتمع لا يسمح بالإخلال بها، والتعدي عليها سيكون من المحرّمات الاجتماعية لاحقا. على سبيل المثال قيمة الصدق في المجتمع السويسري أثيرةٌ لا يمكن التلاعب بها، فإذا كذب إنسانٌ وكشف ذلك منه سقط من أعين الناس..!! ويقاسُ الأمرُ نفسهُ على قيمٍ أساسية أُخرى.

إننا في "عصر الحداثة السائلة" -كما يُطلق عليه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومانZygmunt Bauman- ذلك العصر الذي تذوب فيه الأخلاق مقابل الاستهلاك الذي أصبح كالقدر الذي يجعلنا مجرّد كائنات استهلاكية نستنزف أنفسنا وطاقاتنا لنشعر بالرضا، مدركين أو غير مدركين أن هذا الرضا مؤقت، وأن الطريق بين مركز التسوق وسلة المهملات قصير المسافة! وهكذا تتوالد الرغبات، وتنشأ الحاجات المتطلبة للإشباع القصير حتى ليصبح الأمر مجرّد حلقة فارغة ليس لها بداية أو نهاية فينطبق ذلك الحال على الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية..!

إنَّ هذا الأمر يعني "تسليع" الإنسان، أي تحويله إلى مجرّد سلعة تباعُ وتشترى مجرّداً من القيم العليا، واندثار المُثل الإنسانية السامية مقابل التهتّك والإبتذال، وهذا ما نبّه إليه أيضاً آلفين توفلر Alvin Toffler في كتابه "صدمة المستقبل" وشاطره في اتجاهه باتريك جيه بوكانن Patrick G. Pocanonفي كتابه "موت الغرب"، وها نحن نتلقَّى عبر أمواج الأثير الفضائي الموجة تلو الأخرى لتنحت صخور شواطئنا الحجرية الصلدة، فتذوب رويداً رويداً حتى تتلاشى نهائياً من الشاطئ! هذا ما هو حادث الآن، فإن لم نبادر بتكريس المصدّات القيمية العليا فلن نستطيع لاحقاً أن نفعل شيئاً.

وأُجمِلُ القولَ بقصّةٍ رواها المهدي المنجرة تختصرُ أهمية البناء القيمي للإنسان في وحدة وتماسك وقوة المجتمع، تقول: "عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان بنوا سور الصين العظيم.. واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدَّة علوِّه، ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلِّقه، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب..!. لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس..! فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء وهذا ما يحتاجه طلابنا اليوم. ويعقب أحد المستشرقين على القصّة بالقولِ: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي: أولاً: اهدم الأسرة، ثانياً: اهدم التعليم، ثالثا: أسقط القدوات والمرجعيات..! وما علينا سوى أن نقيِّم بشفافية وصدق ما حدث في هذه الوسائل الثلاثة لنستشعر حجم الخطر إن كنا غير مدركين لأبعاده وأخطاره.

... إنَّ البناء القيمي هو الذي جاءَ من أجل إتمامه الرسول الأكرم -عليه أفضل والسلام- متمثلاً في قوله الشريف: "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (رواه البخاري)، هذه الرسالة التي لا تغني عنها العبادات الشعائرية شيئاً دون تطبيق.

يقول إيدو كوينكان Idowu Koyenikan في كتابه "الثروة للجميع": إن نظام القيم المبني بجودة عالية هو البوصلة، وهو بمثابة دليل لتوجيهك في الاتجاه الصحيح عندما تفقد طريقك".