ربط التعليم بواقعنا!

 

سيف بن سالم المعمري

حُظي التعليم ولا يزال باهتمام حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم-حفظه الله ورعاه- منذ اليوم الأول لميلاد النَّهضة المباركة والتي انبلج فجرها مع إشراقة فجر الثالث والعشرين من يوليو 1970م، حيث جاءت الكلمات السامية لجلالته -أعزَّه الله- مرتكزاً عملياً لنشر مظلة التعليم حيثما وجد الإنسان على أرض عُمان المباركة وقد خلَّد التاريخ تلك الكلمات حينما قال جلالته:" سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر".

ولقد أدرك جلالته – أبقاه الله- ببعد نظره وبصيرته الثاقبة أنَّ بناء الدولة العصرية يتطلب إعداد كوادر بشرية متعلمة تواكب علوم العصر، وإن الإنسان العُماني قادر على إعادة المجد التليد والمكانة المرموقة لعُمان، وإن ذلك لن يتأتى إلا بتسليحه بالعلم والمعرفة فعمَّت نهضة التعليم جميع ربوع الوطن، ولم يعُد التعليم مقتصراً على جنس دون آخر، بل أصبح التعليم حقاً للجميع، وتحقق بفضل الله والإرادة الحكيمة لجلالته ما كان يصبو إليه أبناء عُمان من أخذ كل واحدٍ منهم نصيبه من التعليم ففتحت المدارس ثمّ تطورت مسيرة التعليم إلى افتتاح الجامعات والكليات والمعاهد والمؤسسات العلمية والبحثية، ولم تعد المقارنة يسيرة بين ما كان عليه التعليم في عُمان في بداية السبعينيات من القرن الماضي حيث كان عدد المدارس لا يتعدى 3 مدارس، وبين ما هو عليه في العام الدراسي 2016/2017م وقد بلغ عددها 1103 مدارس بمختلف المراحل التعليمية.

وقد كان توسيع رقعة التعليم ونشره في كل شبر من أرض عُمان، ومحو الأمية، والاهتمام بالبنى الأساسية للتعليم، بالإضافة إلى إعداد الكوادر البشرية الوطنية القادرة على المساهمة في النهوض بمسيرة التعليم أبرز التحديات التي واجهت الحكومة خلال العقود الأولى من مسيرة بناء الدولة العصرية، إلا أنه وبعد مرور أكثر من أربعة عقود ونصف العقد يحق لنا أن نفخر بما وصلت إليه النهضة التعليمية في السلطنة من حيث الكم والنوع، وقد تجاوزت السلطنة مراحل مهمة للنهوض بهذا القطاع الحيوي.

وبرغم التَّقدم العلمي والتطورات المتسارعة في وسائل التكنولوجيا والاتصالات ومع تعدد روافد المعرفة الذي شهدته الألفية الثالثة؛ إلا أنّ تلك التطورات شكلت تحديات جديدة في مواجهة التعليم، وإن كانت خدمته في جوانب عديدة لا يُمكن أن نتجاهلها، إلا أن ما أحدثته شبكة الإنترنت من تداخل في الثقافات والمجتمعات والانسجام عبر الفضاءات المفتوحة ضاعف التحديات التي تواجه التعليم.

والسلطنة ليست بعيدة عن تلك التطورات العصرية المتسارعة، وإن كان التعليم في بداية مسيرته كان يرتكز على أهداف معينة تتمثل في تعليم القراءة والكتابة ومحو أميتهما من المجتمع العُماني، وإكساب المعارف الإنسانية والمهارات الحياتية المختلفة، وغرس القيم والمثل الأخلاقية الفاضلة والوطنية الحميدة، إلا أن الواقع الذي نعيشه وما أفرزته التكنولوجيا والاتصالات يحتم على الجميع التعاضد من أجل بناء أجيال متعلمة وواعية ومتشبثة بقيم ومُثل المجتمع وأخلاقه.

ونحن في مرحلة تُعد بحق فترة ذهبية من عُمر نهضتنا المباركة، وعليه فإنِّ رسالة وأهداف التربية والتعليم يجب أن تلامس واقعنا، وأن تسد الثغرات التي تظهر في المجتمع بين فترة وأخرى، وأن ننسب أيّ تقدم في أيّ مجال بنجاح التربية والتعليم وأيّ إخفاق بغياب الأثر المباشر للتربية والتعليم.

والتربية والتعليم هي مسؤولية مشتركة تبدأ من الأسرة ومن ثم تكمل المدرسة أدوارها المضاعفة، وبصفتي ولي أمر أرى أنَّ دور الأسرة يجب أن يتضاعف أكثر من أيّ وقت مضى لاعتبارات عديدة، ويجب أن يمد أولياء الأمور جسور التواصل مع المدرسة، وأن يستثمروا قنوات الاتصالات المُتعددة، وألا يعفي ولي الأمر نفسه من المشاركة في مسيرة التربية والتعليم داخل مُحيط الأسرة وفي المدرسة وفي تفاعلات الأبناء مع المجتمع، وأن يكون متابعة ولي الأمر لأبنائه في جميع المراحل الدراسية ويحصنهم بالأخلاق الفاضلة والقيم الوطنية الحميدة، وأن يغرس في نفوسهم المثابرة وحب العمل.

وربما يرى البعض أنّ جسور التواصل بين المدرسة والأسرة في الماضي لم يكن حاجتنا إليه بأكثر من حاجتنا إليه في هذا العصر، وإن المدرسة كانت تقوم بأدوارها على أكمل وجه، وقد خرَّجت أجيالاً مُتعلمة وقادرة على مواجهة تحديات العصر، إلا أن ما يجدر التركيز عليه هو أنّ دور الأسرة في الماضي لا يقل عن دور المدرسة وإن الطالب في المدرسة كان يتلقى دروسه على مقاعد الدراسة صباحًا وفي المساء يترجم ما تعلمه على أرض الواقع، فتأدية الطالب لواجباته المدرسية المنزلية وتحت إشراف ومتابعة حثيثة من الأسرة، ومشاركته لأسرته في الأعمال المنزلية المختلفة وفي النشاط الاقتصادي الذي تمارسه أسرته سواء أكان في الزراعة أو التجارة أو الصيد أو الرعي، وعدم وجود الفضائيات والمشتتات، ووسائل الاتصالات، كانت جميعها عوامل ساهمت في بقاء أثر التربية والتعليم الذي يتلقاه الطالب ولم يكن أمامه إذا استوحش إلا أن ييمم نحو كتابه المدرسي، بعكس ما هو عليه الآن فالمشتتات كثيرة ولا حصر لها.

وأما الأدوار المضاعفة للمؤسسات التربوية والتعليمية في العصر الحالي فتتمثل في مدى قدرتها على إدارة مواردها البشرية واستثمار إمكاناتها المادية، ولا يمكن أن ننكر دور الحكومة في دعم مسيرة التعليم بالكوادر البشرية والموارد المادية وهي في نمو مستمر عاماً بعد عام، لذ فأصبح على تلك المؤسسات أن تربط كل قضايا المجتمع بجودة التعليم ورسالته، فعدم إجادة مخرجات التعليم للقراءة والكتابة ليست مشكلة! بل المشكلة الأكبر لماذا وصلنا إلى تلك النتيجة؟ والتعدي على المال العام وعدم احترام القوانين والتشريعات ليست مشكلة! لكن المشكلة الأكبر هي وجود خلل في غرس قيم تحمل المسؤولية وحماية المال العام في نفوس الأبناء، وعدم احترام قوانين المرور والاستهتار في السير في الطرقات والتعدي على خصوصيات المجتمع ليست مشكلة! ولكن المشكلة في ضعف القيم التربوية والأخلاقية التي تشعر الطالب بتحمل مسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه.

وعزوف المواطنين عن العمل في المهن والحرف المختلفة ليس مشكلة! ولكن المشكلة في عدم تهيأت المناهج الدراسية لإعداد المواطن الذي يستطيع أن يُكيف أفكاره مع مهنته وحرفته المستقبلية، وانجرار الشباب وضعفهم أمام إغراءات الموضة والانحلال الأخلاقي واعتناق وتبادل الأفكار المضللة، ونشر الشائعات والأخبار التي تؤجج المجتمع وتتعدى على خصوصياته تفسر وجود مشكلة في ضعف القيم الوجدانية التي ينشأ عليها أبناؤنا.

لذا على جميع المؤسسات التربوية أنّ تدرك بناء الأجيال قيمياً أصبح أكثر إلحاحاً من بنائهم المعرفي في عصر يشهد منافذ عديدة لاستقاء المعلومات والمعارف المتنوعة، ولن يتأتى ذلك إلا بربط التعليم بواقعنا!.

 فبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت.

 

Saif5900@gmail.com