مَنْ يصنع الصحافة؟
حُمود الطوقي
إلحاقاً بِمَا نشرناه سابقاً حول الوظيفة التغييرية للصحافة، في ظلِّ وجود تغيُّرات ومُستجدَّات تطال الساحة المحلية؛ فنحن نشعُر -يقيناً- بأنَّ المسألة أعمق من ذلك بكثير؛ فالوظيفة التغييرية تتطلَّب أدوات مُحدَّدة، وهذه الأدوات تتطلب مُعاينة للواقع الذي نحن فيه، والتوغُّل في مُستجداته، وتسليط الضوء على الصورة العامة التي بِتْنَا عليها في هذه الآونة.
من الطبيعي أنَّ النشأة الورقية للصحافة، والأمجاد التي حقَّقتها -ليس على الصعيد الخبري فحسب، بل والصُّعد التنموية والمعرفية والثقافية- بما فيها من إثراء للمتلقِّي، حين كان الورق هو حامل الصحافة، وهو ما تنتظره الأيادي بشغف كبير، وهو ما يزيِّن المجالس والبيوت والسيارات؛ للتدليل على المتابعة والاهتمام بكل شاردة وواردة، هذا على مستوى المتلقِّين، وفقاً لما وثَّقته النظرة البصرية المباشرة.
لقد باتتْ أمجاد الصحافة خارج دائرة التأثير، وخطابها التأثيري تراجع، ورسالتها باتت مَقُوْدَة بعد أن كانت قائدة، وهذا ينطبق على ما هو مصيري من القضايا، إلى درجة غياب صَوْتِها في بعض الأحايين الضرورية والمُلحَّة، بعيداً عن تسجيل موقف إيجابي يُحيل إليها.
انتشرتْ بكثرة وسائل الإعلام البديلة، انتقلت الصحافة من طَوْر إلى طور جديد، صار من السهل تخيُّل أنَّ إنشاء تدوينة يُشعِر المرءَ بكونه صحفيًّا، وأن نشر تغريدة في "تويتر"، أو منشور على "فيسبوك"، أو صورة على "إنستجرام"، كافية بإعطائه صلاحيات الصحفي، بغض النظر عن الرسالة ذات الأطر المهنية، التي تختفي تماماً في الإعلام البديل (وسائل التواصل الاجتماعي)؛ فالكل إعلامي، والكل مُحق، والكل يقول ما يشاء، وليس على أحد أن يمنعه من ممارسة هذا الدور، بغضِّ النظر عن طبيعة المكتوب، وعلاقته بالتوازنات والقوانين.
كانت الصحافة التقليدية الورقية تبني صحفيًّا في الظل، مُقابل معلومة تحت الشمس، في حين أنَّ الإعلام البديل صار يَبْنِي شخصًا تحت الشمس في مُقابل معلومة تحت الظل، هذا التحوُّل في الأدوار يُحيل إلى العديد من الأسئلة، وهي ذوات أجنحة لا يُمكن الإمساك بها، وهذا مَعْنَاه عدم وجود إجابات مُحدَّدة، ولكنها قابلة للتبلور على أقل تقدير.
هذا التحوُّل يجعلنا نتساءل فعليًّا عن الجدوى من عدم وجود آلية تقنن التفعيل والتفاعل بين المتعاطين على مستوى التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي تنشدُ فيه الصحافة الورقية مساحةَ استقلال كي لا تكون تابعة أو يدًّا لجهة ما، من واقع أن تحوُّلها نحو المستقبل المنظور يستدعي تجسير الهُوَّة بين وظيفة الصحافة الورقية من جهة، والكتابات التفاعلية الإلكترونية من جهة ثانية، وطبيعة الشفافية المسؤولة مع الجهات الحكومية كافة من ناحية ثالثة، وهذا يستتبع وجود قانون تنظيمي تنويري تفاعلي مزدوج، يُفهِم كل ذي مسؤولية وظيفته ودوره في التعاطي مع الحقيقة وليس مع العاطفة والاندفاع؛ لتسهيل وضوح الرؤية وفقاً للقانون الذي يعي أن العالم لا مخرج له من التقنية، ولا غنى له عن الورقي، فهما مُتحقَّقان في كل الحالات.
الدولة أنشأتْ دائرة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، هذا إجراء مُتوافِق مع التحوُّل، وهو إجراء توعوي رقابي عقابي في الوقت ذاته، لكننا نجد أن الضرورة اقتضت وجود تفصيل قانوني في التعاطي الإلكتروني يتم تعميمه، بما أننا أمام صحافة ومصادر أخبار تتَّخذ من العالم الافتراضي (الإنترنت) مكاناً للنشر والنقل والحوار والصِّدام والرَّفض والنقد والانتقاد، وهذا يُحفِّز إصدار قانون مطبوعات ونشر جديد يُنظِّم العملية الصحفية الورقية أُسوة بمنافستها.
نشعُر بأنَّ الضرورة تقتضي اقتراحَ حزمةٍ من الأفكار حول مآل الصحافة الورقية في المستقبل، وهو تقنين دورها التفاعلي، ليس مع الأخبار والقضايا، وليس مع المعلومات والوثائق، بل مع مفاهيم مختلفة؛ مثل: تفعيل الشفافية (بوصفها وظيفة ودورًا)، وتأسيس منظومة تعاملية واضحة بين الصحافة والمؤسسات الحكومية على وجه الخصوص فيما يتعلق بالحصول على المعلومة تمهيدا للوصول إلى الحقيقة، والتمسُّك بفكرة يُسْر الحصول على المعلومات، ما دامت لا تضرُّ بسياسة الدولة العامة. وهنا؛ نعني تماماً الأداءَ الوظيفيَّ للجهات والموظفين فيها وعلاقتهم بتحقيق مُعادلة النضج الأدائي لمهامهم الوظيفية.
نخلص هنا إلى أن التأسيس لنظام عمل تفاعلي في الصحافة الورقية يضمن تطوير المؤسسات الصحفية والعاملين فيها من المسارات غير الواضحة ولا تخدم أهداف المؤسسة الإعلامية.