ليلة في حُب عُمان

 

حميد بن مسلم السعيدي

عندما كُنَّا في صفوف الدراسة كانت أذهاننا صافية يُغرس فيها كل شيء، هي مرحلة البناء العقلي والروحي والجَّسدي، فيترسخ في الذات كل ما هو إيجابي، فهي مرحلة من التعلم لا تزال باقية لفترة طويلة من الزمن في ذاكرة الفرد، فما بين تلك الصفوف كان الفكر يبنى والعقول تتنور بالمعرفة والعلم، وتنمو المشاعر والأحاسيس وتُصبح أكثر ارتباطاً بالوطن وفي مضامينها يتخلَّق الحُب، ذلك المصطلح الذي ظلَّ غريبًا دون أن نستوعب معناه الحقيقي، فقد كانت للقراءة في الأدب العربي وتاريخه مجالاً خصباً لنعرف أن الحُب هو مشاعر تتكون بين إنسان وآخر على وجه المعمورة، كأن يكون بين الزوج وزوجته، أو الأب والأم وأولادهم، أو بين عاشقين للغرام، وكتبت الروايات والقصائد الشعرية والمُعلقات التي ظلَّت تتحدث عن أمجاد وقصص من حكايات مغامرات الحُب، ولكن لم يتطرق أحد أو ربما لم يدرج ضمن مناهجنا حُب الوطن، وحُب الأرض والتربة والرمال والصحاري، لم نجد من يتمجد بذلك الحُب إلا من خلال قصاصات فارغة أو عابرة في وقت ما، وقتها لم نفهم معنى الارتباط بالأرض والمكان، لم نعِ جيداً معنى المُواطنة الحقيقية، فظل كل شيء مبهماً، وظل كل شيء عن طريقه الحقيقي، فهل كانت هناك غاية لتصبح تلك المشاعر جزءًا من حياتنا تتكون مع نمو أجسادنا؟.

 ولكن حينما كبرنا أدركنا معنى الحُب الحقيقي، فاكتشفنا أنَّ هناك أرضاً تضمنا، وتربة نتربى عليها، ورمال نلعب فوقها، وأمواج نسبح فيها، ومع مرور الزمن بدأ يحدث ترابط أقوى، ومشاعر لا يُمكن وصفها أو التعريف بها، فهو رابط أصبح أكثر تماسكاً من قبل بيننا وبين تلك الأم الخالدة التي تمثل بالنسبة إلينا الروح والقلب والشجون، فهي الصدر الذي يضمنا وقت الضيق ونشعر بالأمان معها حتى في رحيلنا؛ إنِّها عُمان.

ما بين تلك المشاعر التي لا تُغادر أجسادنا مهما عصف بنا الزمن، تبقى هي عُمان بعيدة عن كل شيء، ويبقى معها الحُب الأبدي الذي نؤمن به، وتبقى مشاعرنا خالدة في حبها، هذا الحُب الذي لا يمكن أن يكون كأي حُب آخر تنتهي قصته بالفشل، فهنا تبدأ حكاية جديدة لا تنتهي، فيُسجل أبناؤها قصصاً من النجاح والكفاح ضمن سجل تاريخها العظيم، الذي تخلد عبره مئات الإنجازات التي لم تكسرها تلك الأمواج أو الأعاصير فبقيت خالدة تحكي للأجيال القادمة معنى الحُب الحقيقي.

هي ليلة كانت في أحضان عُمان لم أتمكَّن من خلالها من العبور نحو أيّ جهة إلا التفكير فيها، أخذت وقتاً وربما زمنًا وأنا أفكر في معنى هذا الترابط الذي لم أجد شيئاً يُخالطه في ذات المشاعر، وما بين لحظات هذا التفكير في تلك الليلة على جسد هذه الأرض، كان للوجود معنى مع إطلالة فجر آخر يبدأ ببصيص نور يُشرق عليها هناك في البعيد عندما تتعانق الأمواج بشاطئ رأس الحد، فتحاول جاهدة أن تعيق مرور ذلك الشروق حتى لا ينفك رابط المشاعر مع تلك الرمال التي تتعايش معها دائماً.

ليلة لم تكن الوحيدة إلا أنَّها كانت مُختلفة تعايشتها مع عشيقة الدهر بين أحضان رمالها، ما بين تلك اللحظات كان المشهد أكثر مشاعراً وغرامًا، إلا أنه رافقها غيرة من عشاقها الآخرين الذين لم يكفوا عن الدعوة من أجل الوصول إلى قلبها، فكيف لي أن أصف ذلك الحُب المُميز دون غيري، فتساءلت في ذاتي؟ أيكون هذا الحُب يمتلكه الجميع دون استثناء، أم أنها لحظات لا يحصل عليها إلا العاشقون الأكثر غرامًا؟.

تبقى الكثير من الأسئلة عالقة في ذهني، ويبقى حُب عُمان لا مثيل له في هذا الكون، وتبقى مشاعر أبناء عُمان خالدة، هي المشاعر التي تدفعهم نحو التشمير عن سواعدهم من أجل العمل بإخلاص وأمانة من أجل التعبير عن ذات الحُب، فمن يُحب أحد عليه التعبير عن ذاته، من خلال أفعاله التي تعكس مدى حبه له، وهذا ما يشهده الوطن اليوم من عمل متواصل وكفاح جماعي من أجل النهوض به، استمراراً لذات النَّهج السامي الذي غرسه قائد هذه النهضة في أبناء عُمان جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، حيث عمل طوال الفترة الماضية على تقوية الترابط بين أبناء هذا الوطن بحيث أصبح قلوب الجميع من أجله، لذا لا ضير أن نجد اليوم الكل يلهج بالدعاء في كحل الليل من أجل أن يصون الله هذا الوطن ويحميه من شر الأعداء، لذا فلا غرابة أن يستعصي على الآخرين فك شفرة حُب عُمان، إلا أنَّ عشاقها عبروا عن ذلك بكلمات خُطّت بماء الذهب الخالد على أسطح جبال عُمان الشامخة، فنجد شعراءها أبو إلا أن تكون لهم الكلمة في ذلك، وها هي كلمات الشاعر ذياب بن صخر العامري، تمثل مشاعر كل أبناء الوطن:

مـاذا يُضـيرك لـو عشقـتك مـرةً  ... وضـمـمت قــدَّك بكـرةً وأصيـلا

وسـدنت في محراب حبك خـاشـعاً..... أدعـو الإلـه مـرتـلاً تـرتـيــلا

أن يحـفــظ الـود المقـدس بيـننا ..... وبـأن تـكوني الحُب والتقبـيلا

وبأن تـكـوني زهـرة عطـريــةً... لا تعـرفـين إلى الــذبـول سبـيلا

وبـأن تـكـوني بلسـماً في خاطري... يشـفي الجـراح فلن أكـون علـيلا

وبـأن أكـون لـديك أخلـص عاشقٍ... فأردد اسمـك كـالنشـيـد جميـلا

إن الإيمان العميق المترسخ في الذات تجاه هذا الوطن لدى كل أبناء عُمان، يجب أن يتجسد من خلال أفعالهم التي تسعى للنهوض بها، فهو ليس كلمات عابرة نهتف بها في المُناسبات، وإنما علينا التعبير به من خلال قيامنا برسالتنا الوطنية، هذه الرسالة التي تتجلى في الإخلاص والأمانة من أجل عُمان، من خلال التَّجرد من حُب الذات والعمل من أجل مصلحة الوطن، فكلما وضعنا نصب أعيينا هذا الوطن كان العمل خالصاً له، وعلينا أن نؤمن أنّ أعمالنا كلما كانت صالحة، فهو جزء من إيماننا بالله عزّ وجلّ، هذا الإيمان الذي ارتبط بالعقيدة الإسلامية التي رسخت في قلوبنا المعنى الحقيقي للإيمان بعيداً عن النزوات الذاتية، فاكتمال الصورة الحقيقية تأتي من خلال التكامل بين الإيمان الروحي للوطن، والإيمان الديني بالعقيدة الإسلامية، حينها نستطيع أن نقول إننا نسير في الاتجاه الصحيح، أو علينا مراجعة ذاتنا ومحاسبتها قبل أن يُحاسبنا الآخرون، فجبال عُمان الشامخة لن ترحم أحد، وهذه التربة سوف ترفض تلك الأجساد التي خانت الأمانة وعملت لذاتها.

 

Hm.alsaidi2@gmail.com