الثقة في القيادة!

 

 

عبيدلي العبيدلي

استوقفتني الترجمة العربية التي قامت بها مايسة كامل لمقالة عميدة كلية بلافاتنك بجامعة أكسفورد البريطانية مجير وود، الموسومة، "لماذا لا نثق في قادتنا؟". تستهل وود مقالتها قائلة "في الديمقراطيات المتقدمة اليوم، أصبحت الزعامة السياسية متاحة على نحو متزايد لأيّ شخص. فالناخبون، الذين سئموا الوضع الراهن، يريدون التغيير على القمة، الأمر الذي يجعل حتى مؤسسات الأحزاب الكبرى مضطرة إلى النضال لتنصيب زعماء من اختيارهم".

وتورد وود مجموعة من الأمثلة التي تؤكد صحة ما ذهبت إليه، ومن ثمّ أهمية علامة التعجب التي ترفعها في عنوان مقالتها، حيث نجدها تقول "ففي المملكة المتحدة، أحبِطَت جهود نواب حزب العمال الرامية إلى الإطاحة بجيريمي كوربين كزعيم. وفي اليابان، مُني مرشح الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم المفضل لمنصب حاكم طوكيو، هيرويا ماسودا، بخسارة ساحقة لصالح يوريكو كويكي. أما عن الولايات المتحدة، فكان الحزب الجمهوري يُريد فوز أيّ شخص تقريبا بالترشيح لمنصب الرئاسة باستثناء دونالد ترامب؛ ومع ذلك فاز ترامب. ورغم أنَّ هيلاري كلينتون التي تمثل الحزب الديمقراطي الآن كانت من اختيار مؤسسة الحزب، فإنّ منافسها بيرني ساندرز خاض معركة أشد شراسة من توقعات الجميع تقريبًا".

وتحدد وود "ثلاث سمات رئيسية لكسب القدر اللازم من الثقة لكي يتسنى لهم القيادة بفعالية: العزم، والنزاهة، والكفاءة."

على أن وود ليست هي الوحيدة التي تُثير مسألة فقدان الثقة التي باتت ظاهرة تنتشر في المحافل السياسية الدولية. بل يستنجد البعض، من أمثال الباحث جبر الهلول بالتاريخ، فينقل عن المؤرخ "ديورانت" ذلك الحوار السياسي بشأن ضرورة توفر الثقة في تسيير العلاقة بين القائد وأتباعه، فيقتطف حوارًا بشأن هذه المسألة دار بين "كونفشيوس" وأحد أتباعه هو "تسي كوج". ينقل ديورانت عن "كونفشيوس" قوله، "يجب أن توفر السياسة ثلاثة أمور: لقمة العيش الكافية لكل فرد، القدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة النّاس في حكامهم. فسأل (تسي كوج): وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحدها.. فبأيها نضحي؟ فرد الأستاذ: بالتجهيزات العسكرية. وعاود (تسي كوج) السؤال: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد الشيئين الباقيين...فبأيهما نضحي؟ فأجاب الأستاذ: بالقوت... لأنّ الناس إذا فقدوا الثقة في الحكام لم يبق أية أساس للدولة".

ويعج التاريخ الإسلامي بأمثلة تظهر دور ثقة النّاس في قادتهم في انتشار الإسلام، نورد قول سعد بن مُعاذ حين انبرى من بين صفوف المُسلمين عندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم استشفاف رأي المُسلمين في مواجهة قريش في غزوة بدر. حينها برز سعد بن مُعاذ، مخاطبًا الرسول كي يؤكد ثقته فيه قائلاً " فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَ اَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ". 

وعند الحديث عن ضرورة توفر الثقة بين القادة ومرؤوسيهم، لا يقتصر الأمر على الجوانب السياسية، بل يمس ذلك المبدأ أسس العمل في المؤسسات التجارية. هذا ما شدد عليه المشاركون في "الملتقى الثالث لنادي الموارد البشرية"، الذي عقد في دبي، خلال العام 2013، عند مناقشة أسس العلاقة السليمة المطلوب توفرها لضمان أفضل السبل لبناء "الثقة بين القيادة العليا لأية مؤسسة وبين موظفيها وآلية إدارة التغيير والاتصالات في المؤسسات".

وفي إحدى جلسات ذلك الملتقى، قدّم المستشار التنفيذي العالمي، قائد أعمال استشارات القيادة في شركة هيويت في عدد من الدول الأوروبية الكبرى مايكل جروبر، مداخلة في غاية الأهمية أكد فيها على أن "جودة وكفاءة القيادة تؤثران بشكل كبير على منظومة العمل في المؤسسات حيث إن الأداء المتزن للقيادة العليا لتلك المؤسسات يسهم بشكل كبير في خلق بيئة عمل إيجابية ومحفزة للموظفين بما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة ولائهم المؤسسي ورفع معدلات الرضا الوظيفي لديهم مما ينعكس إيجاباً على إنتاجيتهم وأدائهم، (مضيفا) ينبغي على القادة إدراك أهمية الدور الحيوي الذي يلعبه العنصر البشري في إنجاح أيّ مؤسسة ومن هنا لابد لهم من إشراك الموظفين في عملية صناعة القرارات المتعلقة بمستقبل الشركة لما لهذه الخطوة من أهمية بالغة في بناء الثقة المتبادلة بين المدير وموظفيه فضلاً عن دعمها وتعزيزها لقنوات التواصل بين كل قطاعات وإدارات المؤسسة".

ولكي نستكمل حلقة أسس العلاقة الصحيحة التي يريدها القادة، ممن يريدون كسب أتباعهم، نعود مرة أخرى إلى الباحثة البريطانية مجير وود، التي تختتم مقالتها بتشخيص السبب الذي يدعوها للتساؤل حول ضرورة توفر الثقة بين القيادة والأتباع، قائلة "الآن حان وقت إحياء الزعامة الصالحة. فالناخبون في احتياج إلى رؤية مرشحين يظهرون العزم، والنزاهة، والكفاءة. وإذا لم يجدوا مثل هذا النوع من المرشحين فسوف يستمرون في التصويت ضد المؤسسة التي يعتقدون أنّها خذلتهم ــ حتى ولو كان ذلك يعني التصويت لصالح الفوضى في أوروبا أو النرجسية المتهورة في الولايات المتحدة".

هذه العلاقة الجدلية ذات التأثير المتبادل بين القيادة الحكيمة، النزيهة، الكفؤة، والمرؤوس الذي يتحلى بالثقة الواعية المسائلة (بكسر الهمزة) هي أسس بناء مجتمع يطمح لأن ينعم بالسير في الطريق السليم الذي يضمن التغيير عندما يفقد ثقته في قيادته، وتكون هذه الأخيرة مستعدة لقبول ذلك.