أمريكا تأخذ العلم.. ومصر تأخذ الجُثة

 

 

زاهر المحروقي

مِنَ الرَّسائل الجميلة التي وَصَلتني عقب وفاة العالم أحمد زويل هي: "سيدفن أحمد زويل في مصر، لكن أمريكا أخذت الروح والجسد وشبابه وإبداعه.. أخذت الحلم والحقيقة؛ أما مصر فستأخذ الجثة".

لخَّصتْ هذه الرسالة -في كلمات موجزة- قضية العقول العربية المهاجرة إلى الغرب، وهي قضية كبيرة؛ ففي الوطن العربي عقول وأدمغة عبقرية ومبتكرة ومنتجة، وهذه العقول لا يمكن لها أن تظهر وتبدع وتلمع، لأن البيئة لا تساعد على ذلك، وعندما تهاجر إلى الغرب فإنها تجد الجو الملائم للإبداع والابتكار والعطاء، فتخسر الأوطان العربية بعضاً من عقول أبنائها، فيما تخسر هذه العقول (أو بعضها) انتماءَها لوطنها، وقد تجد نفسها في مواقف ضد هذه الأوطان، مثلما قيل عن أحمد زويل نفسه، حيث اتُّهم بأنه أعد أبحاثاً مشتركة مع الجيش الإسرائيلي لتطوير منظومة الصواريخ باستخدام الليزر، فكرَّمته إسرائيل بمنحه جائزة "وولف برايزر" في الكيمياء عام 1993، وهي أعلى جائزة علمية إسرائيلية، تَسَلمها في الكنيست الإسرائيلي من يد عزرا وإيزمان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق؛ وهي الجائزة التي مهَّدت له الفوز بجائرة نوبل في الكيمياء عام 1999. وزويل هو القائل "إن الجزيئات والذرات تتعايش مع بعضها وتتآلف وتتجاذب، وأنه هكذا يجب أن تكون العلاقة بين إسرائيل والشعوب العربية".

بعيداً عن التطبيع وعن مواقف أحمد زويل السياسية (وعلى المستوى الشخصي لا أتفق معه فيها أبداً)، فلا يمكن لأحد أن ينكر مكانته العلمية في العالم، ولم يصل إلى تلك المكانة إلا بفضل وجوده في الغرب. فقد نال جائزة نوبل عن أبحاثه في مجال "كيمياء الفيمتو"، وهي تكنولوجيا لتصوير التفاعلات بين الجزيئات باستخدام أشعة الليزر، ليصبح أول عالم مصري وعربي يفوز بجائزة نوبل في الكيمياء. وهو في الأساس حاصل على بكالوريوس العلوم في الكيمياء عام 1967 من كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، التي عمل معيداً فيها قبل أن  يحصل على درجة الماجستير عن بحث في علم الضوء. ونال درجة الدكتوراة من جامعة بنسلفانيا الأمريكية في علوم الليزر. وقد عمل باحثاً في جامعة كاليفورنيا خلال الفترة بين عامي 1974 و1976، قبل أن ينتقل إلى العمل أستاذاً رئيسياً لعلم الكيمياء في جامعة كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)، وهي من أكبر الجامعات العلمية الأمريكية، خلفاً للينوس باولنج الذي حصل على جائزة نوبل مرتين؛ الأولى في الكيمياء والثانية في السلام العالمي.

نَشَر زويل أكثرَ من ستمائة مقال علمي، وستة عشر كتاباً؛ من بينها: "رحلة عبر الزمن..الطريق إلى نوبل"، و"عصر العلم"، و"حوار الحضارات"، وورد اسمه في قائمة الشرف بالولايات المتحدة التي تضم أسماء الشخصيات التي أسهمت في النهضة الأمريكية، وحل تاسعاً من بين تسع وعشرين شخصية، وتضم القائمة كلًّا من: ألبرت أينشتاين وألكسندر جراهام بيل. وفي العام 2009، أختير زويل ضمن مجلس مستشاري الرئيس الأمريكي للعلوم والتكنولوجيا، الذي يضم عشرين عالماً مرموقاً في مجالات علمية مختلفة.

... إنَّ المكانة العلمية التي وصلها أحمد زويل هي مكانة كبيرة بلا شك، وتؤهله لنيل جائزة نوبل، رغم أن هناك من يرى أنه لولا الضغوط والرضا الإسرائيليين لما نال تلك الجائزة. وربما فيما نشرته وسائل الإعلام من نعي إسرائيلي له قد يؤكد ذلك الرأي، حيث نعته السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وأبرزت في تقرير مطول نبذة عن حياته وجوائزه والأوسمة التي حصل عليها؛ فيما نعاه أفيخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، واصفاً إياه بأنه بطلٌ وقف ضد من أسماهم "الإرهابيين".

والسؤال الذي يجب أن يُطرح هو: ماذا لو بقي زويل في مصر ولم يهاجر إلى أمريكا، هل كان سيصل إلى ما وصل إليه؟ ثم ماذا لو أنه لم يشترك في أبحاث تطوير الصواريخ مع الجيش الإسرائيلي، هل كان سيكون له هذا الشأن؟ وربما أتجرأ وأتساءل: هل كان سيعيش ليمتد به العمر إلى سبعين عاماً خاصة أنه عالم في مجال الكيمياء؟ لقد كان مصير علماء الذرة العراقيين بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ما بين اغتيال واختفاء وسجون وفقر وأمراض نفسية وعضوية، فيما كان مصير العلماء العرب الآخرين الموت الغامض والاغتيال، والقائمةُ طويلة في هذا الشأن ويمكن الرجوع إليها في مواقع الإنترنت، فهم كثيرون ومن بلدان عربية مختلفة، وعلى رأس هؤلاء: يحيى المشد وهو واحد من أهم عشرة علماء على مستوى العالم في مجال التصميم والتحكم في المفاعلات النووية، كان هدفاً للمخابرات الإسرائيلية، بعدما وافق على العرض العراقي للمشاركة في المشروع النووي الذي وفرت له العراق كل الإمكانيات والأجهزة العلمية والإنفاق السخي، وسميرة موسى وهي أول عالمة ذرة مصرية، وكذلك سعيد بدير، ومصطفى علي مشرفة...وكثيرون، فيما واجه العالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان صاحب القنبلة النووية الباكستانية تهماً كثيرة منها مساعدته للعقيد معمر القذافي في محاولاته النووية، إلا أن حماية باكستان له جعلته في مأمن ولكنه في خطر.

وفي مقال نشره الكاتب نبيل الفولي في موقع "الجزيرة نت"، يَعْزو مشكلة هجرة العقول العربية إلى ظلم سياسي واقتصادي طويل، جرف هذه البلدان وأباح خيراتها لحفنة قليلة من المتحكمين في المجتمع والدولة بلا أهلية ولا استحقاق، مقابل إفقار الشعوب وإخلاء المعامل ومراكز البحوث والجامعات والمستشفيات من الإمكانات التي تستوعب المواهب، وتفتح أمامها أبواب الاكتشاف والإبداع العلمي. ويَعتقد الفولي أن زويل لو بقي في بلاده ربما صار خبيراً كبيراً في مصلحة المجاري ومياه الصرف، وابتكر أسلوباً منخفض التكلفة لإغراق الأنفاق، وحينها كانت بلده ستستخدمه في قتل الفلسطينيين لصالح إسرائيل. وتساءل: "أليس من الأفضل إذن أن يرحل إلى حيث ينتج علماً حقيقيًّا ينفع بعضه الناس ويضر بعضه الناس مثل أي اختراع حتى ولو كان اختراع السكين؟".

ستبقى مشكلة هجرة العقول والأدمغة العربية قائمة ما بقيت الأسباب قائمة؛ فهذه العقول لا تجد الأرضية والبيئة الصالحة للعمل والإنتاج والابتكار في أوطانها الأصلية؛ فما تواجهه من مشكلات وغياب الرغبة الأصلية في العلم والتكنولوجيا، مع مشكلة البيروقراطية والحسد والغيرة، كل ذلك يساعد هذه العقول على الهجرة. وسيبقى العالم الغربي جاذباً لهذه العقول خدمة لمصالحه وخدمة للعلم، وهذا بدوره قد يجعل من هذه العقول تُخْلِصُ في عطائها لمن تبناها وفتح لها الأبواب والآفاق -وهو مبدأ عادلٌ تماماً- حتى وإن كانت ستعمل ضد أوطانها فتغدو هذه العقول -حسب رأي نبيل الفولي- "معولَ هدم للأمة أو سيفاً مسلطاً على الرقاب، فتتبنى أفكار الغرب بكل حذافيرها دون فلترة".

وشخصيًّا.. أتعاطف مع العلماء العرب وأشفق عليهم، فخياراتهم محدودة؛ إما أن يتخلوا عن العلم، وبالتالي سيلقون تجهيلاً من أوطانهم ويعيشون مُهمشين، أو أن ينفذوا بعقولهم إلى الغرب، وإذا ما هاجروا فهناك شروط صعبة لنيل الاعتراف والجوائز؛ ولكن يبقى أن نقول متى ما وجد الشباب العربي البيئة الصالحة للعطاء سيعطون، ولا ينقص الوطن العربي المال ولا الأدمغة، وإنما تنقصه الإرادة، وفي الوطن العربي خوفٌ غير مبرر من العِلم والعلماء، ولا أدل على قيمة العلماء على المستوى العالمي مما حصل لعلماء الذرة العراقيين بعد الاحتلال الأمريكي.

ومن مقولات أحمد زويل أنَّ أهم عامل لنجاح الأمم هو الطاقة البشرية. وهذه المقولة صحيحة تماماً، وإلا فإن الغرب سيأخذ العقول والأدمغة والعلماء، وسيأخذ العرب الجثث، كما حصل مع أحمد زويل، وفي الأصل فإن ثرى الأوطان العربية به من الجثث ما يكفيها، والتي ماتت بفعل الهمجية العربية، فبدلاً من الاهتمام بالعلم والعلماء والمحافظة على حيواتهم، فإن بعض البلدان العربية مشغولة بتدمير الوطن العربي من الداخل، وقد جعلت هذه الدول "عزرائيل" ضيفاً مقيماً في المنطقة، لدرجة أن يسأل الإنسان نفسه: لصالح من يعمل هؤلاء؟، وهل هم على علم بما يفعلونه، وأنهم ليسوا إلا مجرد دمى تحركهم المنظمات المشبوهة كالماسونية وغيرها؟!