حميد بن مسلم السعيدي
عُمان أرضُ الحضارةِ والتَّاريخِ على مدى العصور الماضية، حيث نمت بذور الحضارة على هذه الأرض التي خلدت تلك الآثار الشاهدة على منجزاتها، لتكون رفيقة للحضارات الأخرى التي ظهرت في مصر وبلاد الرافدين وبلاد السند، قراءتنا لها تُعطي مؤشرات على مدى التعجب والاستغراب منها، حيث كان الوجود الإنساني في مناطق مُختلفة والذي انتشر بين الساحل والجبل وبين الصحراء والأدوية، أنشأ مدناً متطورة تواكب تلك العصور، وأقام الموانئ التي تربطه بالحضارات الأخرى، ومارس خلالها صناعات متنوعة وآمن بمعتقدات مختلفة تزيدنا استغراباً وتضعنا في مواقف مُحيرة قد تأخذ منِّا زمنًا طويلاً لتفسيرها، هو الغموض الحضاري وأسراره الذي يحتاج لفك طلاسمه وقراءة رموزه.
حيث رسم الإنسان العُماني لوحة فنية خالدة عبر العصور الزمنية التي تعاقبت على هذه الأرض، استطاع خلالها أن يخط تاريخه بلغته القديمة، ليترُك لنا إرثاً عظيماً نتفاخر به بين الأمم، ونتعلم منه العِبر والعظات، هو التاريخ الذي لا يترك دون قراءة أو تحليل ليغرس في أبناء هذا الوطن معنى الكفاح والصمود في سبيل الحياة، فلا يُمكن لأيّ إنسان أن يكون له وجود دون معرفة تاريخه، فهو مجلد عظيم يحتاج للقراءة لنتعظ من الماضي ونتعلم من الحاضر ونستكشف المُستقبل.
ويُعد المتحف الوطني البوابة التي يعبُر من خلالها أبناء هذا الوطن نحو تاريخ أجدادهم، حيث يمثل مجلداً تاريخياً يتحدَّث عن عراقة وحضارة عُمان، فهناك فرق كبير بين قراءة كتاب وبين مشاهدة آثار، فالأول يُثري المعرفة والثاني يُثري المعرفة ويلهم الفكر عظمة وافتخاراً بما يشاهده من دلائل ومنجزات على تواجد الإنسان ورغبته في الحياة، حيث يضم المتحف 15 قاعة تضم بداخلها أكثر من سبعة آلاف قطعة أثرية تتحدث عن فترات تاريخية قديمة بدءًا من عصور ما قبل التاريخ والتي تعود إلى آلاف السنين إلى العصر الحديث، تنوعت هذه القاعات في تخصصاتها لتعرض مُنجزات الإنسان في مختلف المجالات، وتترك للقارئ علامات استفهام عديدة وأسئلة تحتاج للإجابة، هكذا هو التاريخ بكنوزه الثرية التي تتركنا في حيرة بعد كل اكتشاف، حيث توزعت بين الشمال في مسندم ومناجم النحاس ومقابرها في جبال عُمان وسواحلها وسهولها إلى ظفار في الجنوب حيث اللبان وعراقة تواصله مع الحضارات القديمة، مارس خلالها الإنسان معتقدات مختلفة والبعض منها لم نقرأ عنه سابقاً ولم نجد مراجع تتحدث عنه، كتب تاريخه بلغته ورمزه الخاص، وتكيف مع البيئة العُمانية الصلبة، فكان ثمار ذلك العديد من الصناعات والمنجزات التي بقيت ليومنا هذا، ويكفينا مفخرة وجود الأفلاج المائية التي ظلت شامخة تشق الجبال لتصل إلى السهول والواحات لتلون الصحراء باللون الأخضر، فلا غرابة أن يكون هذا المتحف مدرسة يُقدم رسالة تعليمية ويُسهم في غرس قيم الكفاح والعمل ويقوي الانتماء لعُمان.
حيث جسدت قاعات المتحف أسماء مُتعددة تتحدث عن حقب تاريخية وعصور زمنية متنوعة، تصف كل مرحلة تاريخية بخصائصها وآثارها التي كلما بعدت تاريخيًا زاد غموضها، فكان هناك تسلسل تاريخي يترك للزائر مكاناً للعبور عبر البوابة لتمضي بين القاعات متجولاً بين تاريخ عُمان بمراحله الزمنية بدءا من عصور ما قبل التاريخ إلى وقتنا الحاضر في عصر النهضة الحديثة، فتركت القاعات وصفاً للدور العُماني على مر العصور، ففترة ما قبل التاريخ كانت الحضارة العُمانية بارزة من خلال التجمعات البشرية والمستوطنات الكبيرة التي استقرت في سواحل عُمان وسفوح جبالها، ثم ما لبثت أن ارتبطت بعلاقات مع الحضارات المجاورة، فها هي مصر الفرعونية تتبادل السلع التجارية مع العُمانيين، ولم تكن حضارات الرافدين(السومريون، والبابليون، والآشوريون، الأكاديون) ببعيدة عن مجان، تلك الحضارة المُنتجة لمعدن النحاس الذي كان يتفجر من جبال حجر عُمان، فكانت كتابتهم شاهدة على تلك العلاقة الوطيدة، وأما مزون فكانت علاقاتها مع الحضارة الفارسية بارزة عبر التاريخ، فعُمان تفاخر بأسماء خالدة تبرز نواحي قوتها، وارتبطت بعلاقات تجارية مع الهند تعود للألفين السادس والخامس قبل الميلاد، ومع ظهور الدين الإسلامي كانوا من أوائل من دخل الإسلام، فكانت لهم بصمة إسلامية شاركوا خلالها في الفتوحات الإسلامية ونشر الدين الإسلامي عبر آسيا وشرقي أفريقيا، وكانوا من أوائل من وصل إلى ميناء كانتون في الصين، وميناء سورابايا في جزر جنوبي شرق آسيا.
أما في مجال العلم والأدب فظهر العديد من العلماء العمانيين في مجالات مُتعددة ومنهم الخليل بن أحمد الفراهيدي، وجابر بن زيد الأزدي، وغيرهم والمكتبة العمانية غنية بإنجازاتهم العلمية، وفي العصر الحديث كانت الإمبراطورية العُمانية تُسيطر على سواحل المُحيط الهندي وتمارس التجارة البحرية عبر البحار، وترتبط باتفاقيات تجارية مع الدول الأوروبية تؤكد رسوخ قوتها في بحار المحيط الهندي.
ولا أدل على التاريخ البحري العُماني من استعانة البحارة الأوروبيين بالشيخ أحمد بن ماجد ليُعلمهم أصول البحار ومسالك المحيطات، والتاريخ كان شاهداً على دور العمانيين في طرد الغزاة ليس من عُمان فحسب وإنما من شرقي أفريقيا وتُعد إمارة لامو أقدم إمارة عُمانية على الساحل الشرقي لأفريقيا، وكل من استنجد بعُمان من الغزاة والطغاة كانت الأساطيل الحربية تمخر رافعة راية الانتصار، هكذا رسم العمانيون لأنفسم لوحة من المجد والإنجازات، واستطاعت تلك الإمبراطورية أن تمد حدودها عبر سواحل الخليج العربي الشرقية والغربية، ويصل امتدادها إلى سواحل شرقي أفريقيا، راسمة خريطة لدولة قامت على سواعد الرجال وتضحياتهم من أجل بناء عُمان.
ومع تولى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظم، كانت بداية تاريخ جديد يؤرخ في كتاب تاريخ عُمان، في بناء دولة حديثة تقوم على مواكبة التطور الذي يشهده العالم المُتحضر، تحققت خلالها إنجازات مُتعددة في مختلف المجالات، وارتبطت بعلاقات مع دول العالم تقوم على الصداقة والسلام والتسامح، راسمة لشخصية عُمانية تتميز دائمًا بالهوية العُمانية، تلك الهوية التي ميزتهم عن غيرهم من الشعوب، فكانوا مثالاً للتسامح والأخلاق الرفيعة التي جعلتهم يرتبطون بعلاقات صداقة مع كل دول العالم.
هكذا كانت قاعات المتحف الوطني تسرد لنا التاريخ العُماني لتصف تلك الحقب الزمنية التي أظهرت الوجود الإنساني ومقدرته على بناء الحضارة، فكل تلك الآثار تعطي مؤشرات على أنَّ الإنسان قادر على الإنتاج الفكري والإبداعي والصناعي في مختلف المجالات، وقادر على صنع مجد لوطنه يضاهي الدول الأخرى، فلا ضير أن يُشمر أبناء هذا الوطن اليوم لبناء وطنهم، بحيث يصبح في مصاف الدول المُتقدمة، هي مدرسة التاريخ متى ما تمكنا من قراءتها نستطيع فهم الواقع وكتابة تاريخنا الحديث.