صالح بن سعيد الحمداني
تمثل الحوكمة والشفافية ركيزتين أساسيتين في بناء اقتصاد مستدام ومزدهر، حيث تلعبان دورًا محوريًا في تعزيز ثقة المستثمرين وضمان استمرارية الشركات، ومنع التجاوزات والانحرافات المالية والإدارية، ومع تزايد تعقيد العلاقات التجارية واتساع نطاق العولمة، بات الاهتمام بالحوكمة الرشيدة والشفافية ضرورة لا غنى عنها، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي.
ولو نظرنا إلى مفهوم الحوكمة ومفهوم الشفافية، فتشير الحوكمة (Governance) إلى مجموعة من القواعد والمبادئ والإجراءات التي تحكم العلاقة بين إدارة الشركة ومساهميها وأصحاب المصالح الآخرين، وتضمن أن تُدار الشركة بطريقة مسؤولة وشفافة تحقق العدالة وتمنع استغلال السلطة، أما الشفافية (Transparency) فهي مبدأ أساسي في الحوكمة يقوم على إتاحة المعلومات الجوهرية والدقيقة حول أوضاع الشركة المالية والإدارية لجميع أصحاب العلاقة في الوقت المناسب بما يعزز الثقة والمساءلة.
وعلى الصعيد الوطني، تبنت معظم الدول أنظمة وتشريعات لتنظيم الحوكمة في الشركات، مثل قوانين الشركات، وقوانين سوق المال، وقوانين مكافحة الفساد، إضافة إلى تعليمات البنوك المركزية وهيئات الرقابة المالية.
فعلى سبيل المثال، أصدرت السلطنة "مدونة قواعد حوكمة الشركات" لأول مرة عام 2002، وتم تحديثها عام 2016 لتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة والنزاهة، وجعلها مواكبة للمعايير الدولية، وتُعد هذه المدونة من الأعمدة القانونية المهمة التي تنظم سلوك الشركات المساهمة العامة المدرجة في سوق مسقط للأوراق المالية.
من أبرز ما نصّت عليه المدونة:
1. تحديد مسؤوليات مجلس الإدارة بوضوح إذ أوجبت عليه وضع الاستراتيجيات العامة للشركة ومتابعة تنفيذها وتقييم أداء الإدارة التنفيذية.
2. تعزيز الإفصاح المالي بإلزام الشركات بنشر تقارير مالية دورية تحتوي على بيانات دقيقة وموثوقة تتيح للمستثمرين والمساهمين اتخاذ قرارات مستنيرة.
3. استقلالية المدققين الداخليين والخارجيين، حيث يُشترط أن يتم تعيين المدققين من قبل الجمعية العامة، وليس من قبل الإدارة التنفيذية.
4. تشكيل لجان متخصصة مثل لجنة التدقيق ولجنة الترشيحات والمكافآت، للقيام بدور رقابي مباشر داخل الشركات.
5. تشجيع التنوع في مجالس الإدارة بما في ذلك تمكين المرأة ورفع كفاءة القيادة المؤسسية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد نماذج من السلطنة رائدة في تطبيق الحوكمة، مثل: بنك مسقط الذي يلتزم بإصدار تقارير سنوية للحوكمة تتضمن تفاصيل هيكلية وبيانية عن مجلس الإدارة، وعدد الاجتماعات والحضور وأداء اللجان، إضافة إلى السياسات المتبعة للامتثال ومكافحة غسل الأموال، وكذلك شركة الاتصالات العُمانية (عُمانتل) التي تُعد مثالاً للشفافية والإفصاح المالي، حيث تنشر تقارير دورية خاضعة للتدقيق المستقل وتفصح بوضوح عن التعاملات مع الأطراف ذات العلاقة بما يعزز من ثقة المستثمرين.
أما على الصعيد الدولي، فقد أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مبادئ حوكمة الشركات التي أصبحت مرجعًا عالميًا، كما تبنت لجنة بازل للرقابة المصرفية إرشادات ملزمة للبنوك بشأن الحوكمة ووضعت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد توصيات بشأن تعزيز الشفافية والمساءلة في الشركات والمؤسسات.
ومن حيث أهمية الحوكمة الجيدة في جذب الاستثمار، فإن الحوكمة الرشيدة تمثل عاملًا حاسمًا في جذب الاستثمار المحلي والأجنبي، إذ إنها توفر بيئة مستقرة ومأمونة تحفظ حقوق المستثمرين وتقلل من مخاطر الفساد والاحتيال وسوء الإدارة، عندما يشعر المستثمرون أن أموالهم تُدار وفق قواعد شفافة وعادلة، فإن ذلك يعزز من جاذبية السوق الوطنية، ويدعم نمو الشركات، ويسهم في تحسين تصنيف الدولة الائتماني.
وقد أظهرت الدراسات أن الشركات الملتزمة بمبادئ الحوكمة تحقق أداءً ماليًا أفضل وتنجح في استقطاب رؤوس الأموال طويلة الأجل مقارنةً بالشركات التي تتبنى نماذج إدارة مغلقة وغير شفافة.
ومع هذا ورغم وجود تشريعات متقدمة على المستويين الوطني والدولي إلا أن الواقع العملي يكشف عن فجوة بين النصوص القانونية والتطبيق الفعلي ومن أبرز التحديات التي تواجه فعالية هذه التشريعات على المستوى العام الاقتصادي: محدودية الإفصاح والشفافية في بعض القطاعات، وغياب الحماية القانونية الكافية للمبلّغين عن الفساد، وانتشار ثقافة المحسوبية وضعف ثقافة المساءلة المؤسسية.
التشريعات وحدها لا تكفي بل لا بدَّ من تمكين المؤسسات الرقابية، وتفعيل أدوات الرقابة الداخلية وتعزيز ثقافة النزاهة المؤسسية إلى جانب استخدام الأدوات التكنولوجية لتعزيز التتبع والإفصاح ومكافحة التلاعب المالي.
ونجد في سياق ما تم ذكره بعض التوصيات لتعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد المالي لتحقيق حوكمة فعالة وشاملة في الشركات التجارية، يُوصى بما يلي: مراجعة وتحديث التشريعات الوطنية وفقًا لأفضل الممارسات العالمية، وتعزيز استقلالية أجهزة الرقابة المالية والإدارية، ونشر ثقافة الحوكمة والنزاهة عبر التدريب والتوعية، وفرض معايير شفافة للإفصاح المالي والتدقيق الخارجي، وتمكين المساهمين وأصحاب العلاقة من الرقابة والمشاركة الفعالة، ودعم الرقمنة والحوكمة الإلكترونية كوسائل لتعزيز الشفافية.
وختاما نستطيع القول إن الحوكمة والشفافية تمثل حجر الزاوية في بناء شركات ناجحة واقتصاد وطني قوي، وتُعد أحد أهم العوامل المؤثرة في جذب الاستثمار وتعزيز الاستقرار المالي.
وبينما تمثل القوانين خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، فإن الفعالية الحقيقية تكمن في حسن التطبيق واستمرارية الرقابة وبناء ثقافة مؤسسية قائمة على النزاهة والعدالة، بهذا فقط يمكن أن نحقق بيئة تجارية مستدامة تنمو فيها الشركات وتزدهر الاقتصادات.