التعليم وإعادة بناء الهويّات الوطنية المتشظية

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

الهويّة الوطنية في المنطقة العربية تمر بمنعطف خطير؛ يجعل من الصعوبة الحديث عن هويّة وطنية واحدة يشعر بها الجميع ويدافعون عنها، الهويّة التي تضم الجميع دون إقصاء، وتدافع عن الجميع دون تمييز، ويبدو أن هذه التشظي في الهوية هو أحد أهم عوامل الفوضى التي تعيشها المنطقة، ونتيجة لهذا التشظّي شاع استخدام مفردات تعبر عن هذه الحالة، وتبرز وجود الهويّات الفرعيّة الدينية مثل الأقباط والإخوان، والسنة والشيعة، والروافض والدواعش، أو تلك المفردات التي تعبر عن هويات قومية مثل العرب والفرس والأتراك والتركمان، أو تلك الهويّات التي تعبر عن امتلاك المواطنة مثل المواطنين والوافدين أو المواطنين والمجنسين أو البدون، أو تلك التي تعبر عن هويّات سياسية مثل الشرعية أو الإخوان أو الحوثيين، أو تلك التي تقوم على حب الوطن: الوطنيين أو الخونة، وهي مفردات لا نجد لها ظهورا كبيرا في المجتمعات الديمقراطية التي نجحت في بناء هوية تعددية حاولت من خلالها أن تصنع هوية وطنية يشعر كل واحد بأهميته فيها.

إن حالة الارتداد إلى الهويات الفرعية في المنطقة أصبحت واقعاً، وهو مؤشر في ضعف الشعور بالهوية الوطنية، وما يصاحبه من الشعور بالإقصاء والتهميش السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الديني، هذا الشعور يدفع أتباع هذه الهويات إلى التمحور حول أجندتهم الخاصة، والصراع مع غيرهم من أتباع الهويات الأخرى داخل الوطن من أجل أن نيل الاعتراف بالوجود أو من أجل التخلص من التمييز الذي يمارس ضدها، أو من أجل أن يكون لها الغلبة على بقية الهويات في الاستئثار بمقدرات الوطن وإمكاناته وقراراته عن طريق إقصاء الآخرين؛ ليس فقط من الحقوق الاقتصادية والسياسية ولكن من حقهم في الحياة فتقتلهم أو تُهجِّرُهم، وتصبح الأوطان مجرد ساحات تتصارع فيها ما أطلق عليها أمين المعلوف بـ "الهويات القاتلة"، وفي ظل هذا الواقع نتساءل هل يمكن أن يكون للتعليم دور في التغلب على هذا الواقع؟ هل يمكن بناء هويات مسالمة تقبل بالتعايش مع بعضها البعض؟

 

قبل الإجابة عن هذين السؤالين، لابد من القول إن التعليم كان ولا يزال أداة للتلقين الإيديولوجي لا أداة لبناء المواطنة، هذا التلقين يعبر عن مبادئ السلطة التي تتواجد في الحكم، فالتعليم في ليبيا على سبيل المثال في عهد معمر القذافي كان يركز على الأفكار التي يضمها الكتاب الأخضر، وهي أفكار تسعى إلى بناء فرد ليس بالضرورة أن يكون فعالا وطنياً ولكن لابد أن يكون مدافعًا عن أفكار الجماهيرية بغض النظر عن الضرر الذي يمكن أن تحدثه بالمجتمع، وبغض النظر عن التشظي الذي قد تلحقه بالهويات التي يتكون منها الوطن، وعندما جاء الربيع العربي مارس الذين قبضوا بزمام السلطة نفس الدور في توظيف المناهج لتلقين الطلبة مبادئهم وتوجهاتهم بغية الحصول على دعمهم وتأييدهم للتوجهات التي جاؤوا بها، مما جعل التعليم  ساحة يلعب فيها الغالب لا مكان فيها لبناء الوعي الذي يقود إلى حماية الغالب من أن يعبث بالهويّة الوطنية، وبالتالي فإنّ الدور الذي نأمل من التعليم أن يكون الأداة التي تستخدم في إعادة بناء الهويّات الوطنية التي يمكن أن تمنح دول المنطقة فرصا أخرى لتحقيق الاستقرار لا سيما في ظل وجود الملايين من الطلبة الذين يشهدون كل هذا الصراع بمختلف أشكاله، ويدفعون ثمنًا لا يمكن تجاهله، مما يقودهم إلى الوقوف مع هوياتهم ظالمة أو مظلومة، فكيف يمكن بناء الشعور بالهوية الوطنية؟

 

تزداد الصعوبة في إنجاز هذا الهدف إلى كانت المؤسسات التعليمية نفسها تقوم بعملية الفرز الطائفي، وتسعى إلى بناء قواعد لا يمكن أن يقبل بموجبها طلبة من الطوائف الأخرى، أو أنّها تحرص على تعليم أبنائها في مدارس مستقلة بها تقوم بعملية تلقين تضعف الهوية الوطنية، قد قرأت مرة تحقيقا عن استمارة تسجيل للروضة في إحدى الدول الخليجية تطلب من أولياء الأمور التعريف بمذهب والدي الطفل، وهناك من يعمل على وجود مَن هم مِن هويته في مناصب تدريسية أو قيادية في مؤسسات التعليم، لأنّه يدرك أهمية التعليم في تمرير مثل هذه الأجندة التي تستهدف الهويّة الوطنية التي يفترض أن تكون تقويتها الأولوية الرئيسية لجميع مؤسسات التعليم، لأنّ هذه المؤسسات مؤسسات مدنية وطنية الأصل فيها توحيد أبناء الوطن الواحد نحو هدف مشترك واحد هو الارتقاء بالوطن والعمل على النهوض به، بدلا من أن تكون أماكن لتأجيج الصراعات وممارسة الطائفية البغيضة، مما يؤدي إلى تقسيم المجتمع الواحد إلى مجتمعات عدة، وتقسيم الهوية الوطنية إلى هويّات فرعية، والانشغال بالصراع والتصفية بدلاً من الانشغال بالبناء والتنمية.

لقد تراجعت في السنوات الأخيرة كثير من المشاريع الهادفة إلى تعزيز المواطنة الفاعلة من خلال أنظمة التعليم، بل إنّ التعليم يعيش نفس حالة الفوضى التي تعيشها الحياة السياسية، ولكن وسائل الإعلام لا تسلط الضوء عليه كما تسلط الضوء على الصراعات السياسية، هذا التراجع في مشروع تعزيز دور التعليم في بناء المواطنة التي تقوم على الاعتراف والمساواة في الحقوق الواجبات تقابله حالة صعود لخطاب الهويات الفرعية، وتنظيم لمواردها وأدواتها، شجعهم في ذلك حالة الضعف التي تمر بها الأنظمة التعليمية، وحالة الهشاشة التي تمر بها بعض الدول في المنطقة، وحالة التأرجح التي تمر بها النخب الفكرية والتربوية التي انقسمت مع المنقسمين، وتخندقت في صف الجماعات التي تنتمي إليها أو كلفت بالدفاع عنها، وبالتالي غاب عنها الدور الذي يمكن أن تقوم به في إعادة توحيد الصف، وتجسير الفجوات الكبيرة بين جماعات الوطن الواحد.

 

إنّ الاقتداء بالمثال ضروري في مواجهة هذه الحالة، والمشروع العماني في بناء الهوية الوطنية واحد من الأمثلة التي نشعر نحن العمانيين بفخر حين نتحدث عنه، هو مشروع لا نزعم أنّه كامل ولكنّه مختلف عمّا يجري في المنطقة، لم يُبن على أساس طائفي إنّما بني على الاعتراف بالجميع في الوطن الواحد، مما مكن من بناء هوية وطنية واحدة يشعر الجميع بالانتماء لها، وهي من أهم محركات التنمية والاستقرار، وبالتالي فإنّ دول المنطقة تنقسم من حيث أولويات التعليم فيها إلى فريقين: فريق لابد أن يستمر التعليم فيه في تعزيز الهوية الوطنية القائمة والصلبة، وفريق لابد أن يهدف التعليم فيه إلى إعادة بناء الهوية الوطنية وترسيخ قيم العيش المشترك التي تزعزعت نتيجة الانقسامات السياسية والدينية، لابد أن يستثمر التعليم ليكون حاجزًا واقياً ضد مزيد من التشظي، والقتل والدمار، خيرا لنا أن يكون التعليم أداة لتعليم الطلبة كيف يعيشون بدلا من أن يكون أداة لتعليمهم كيف ينعزلون عن الآخرين من مواطنيهم أو يقتلونهم لأنّهم مختلفون عنهم.