قوّة التشاؤم

 

معاوية الرواحي

 

من أكثر الأشياء الحتمية في هذا الوجود أنّ الأفكار ليست مجردة وخالية من المشاعر كما يحلو للفلاسفة والمُفكرين خداع أنفسهم وغيرهم بذلك، ولو قسمنا العالم بشكل رياضي إلى ما هو حتميّ وما هو احتمالي، سنجدُ أنّ التشاؤم لا يقع بالضرورة ضمن الاحتمالات في الأفكار، وإنما هي طاقة جذب سالبة الشحنة تفرض نفسها على الفكرة وتُعيد توجيهها لتخدم مشاعر التشاؤم الداخلية، بلغةٍ أبسط، يُفكرُ المفكر وهو يظن أنّه [واقع] ولكنه في [الواقع] يقع في فخِّ من فخاخ المشاعر القادرة على الاستيلاء عليه وعلى أفكاره وبالتالي على جعله مادّة جاذبة للحزن، واليأس رفيق التشاؤم الأزليّ.

تعبر الكتابة عن الأفكار بشكل أمين ومخلص منذ أزل الدهر، واللغة التي قسّمها الله بين الشعراء والمُفكرين بقسمة العدل تمتلك آلياتها الداخلية لتفرض نسقها وأنماطها على الكاتب وعلى المتلقي القارئ. ولكن لغةً أخرى هي لغة القلوب تمارس دورها أيضاً في عملية الكتابة وعملية التلقي، وهذه اللغة ليست قياسية بحيث يمكننا أن نجد لها قواعد وأن نسيطر عليها، لغة القلوب تمارسُ وعيها وراء اللغة والأفكار، والقلوب اليائسة تمارس لغة التشاؤم بطريقة لا واعية، تجعلنا دون أن نحس ننساق وراء وهم النهايات المريرة، أو وراء وهم الدمار المحيق.

تأخذ لغة التشاؤم طابعاً تجارياً أحياناً، فعندما تتابع تلك الحزمة من الأفلام التي تتحدث عن نهاية العالم، وعن فناء الجنس البشري، نجد أن [شعرية] السينما الحزينة قد دخلت قلوبنا من باب الخيال، وهذا ما فرق الله به بين الشعراء الذين سمح لهم بقول ما لا يفعلون، وبين المُفكرين الذين تلزمهم إكراهات الوجود على فعل ما يقولون، من باب الخيال يبدو الأمر متقبلاً ولطيفاً، ولكن من باب الواقع تختلط الأشياء، وتدخلنا فكرة تبدو في ظاهرها منطقية ومبنية على معطيات واقعية إلى بئر عميق من النهايات المُبكرة، والاستسلام المبكر لشيء يظهره كاتبه بصفة الحتميّ اللازم، بينما هو ضمن الاحتمالات التي تحتاج إلى احتمالات أخرى، فالأمرُ رباعي الأبعاد مع بعد الزمن، وخماسي الأبعاد مع بُعدِ التلقّي، المتلقي يصنع المعنى أكثر من كاتبه، وبعد عملية صناعة المعنى التي تأتي ضمن عملي فك شيفرات الكتابة والأفكار، نصلُ إلى الرسائل التي تقولها لغة القلوب التي لا تملك حروفًا، تمتلك نبضات لا واعية مثل شعورنا الغريب عندما نسمع كلمة [الوطن] أو الحياة، أو [الرب] أو [الأم] أو كلمة: عُمان!!!.

بعد هذا التقديم الذي لم أجد مناصًا من قوله أستطيع أن أقول دون حاجة لمحاججة طويلة أنّ لغة التشاؤم التي تشيع في الأرجاء العُمانية وفي الكتابة العُمانية في الوقت الحالي ليست بحاجة إلى تحليل لفهم الأسباب، فهي واضحة المعالم وهي كلها تتمحور حول الخوف الوجودي العُماني، والقلق على البلاد، والشعور الداخلي بالتوجس من انزلاق عُمان إلى أتون الظروف الخارجيّة النابعة من الجنون العربي الذي لم يتوقف حتى هذه اللحظة. حروب هُنا، ودماء هناك، وفتن في كل مكان، بقيت السياسة العُمانية، والقيادة العُمانية تحديداً ممثلة بمدرسة السلطان قابوس- حفظه الله ورعاه- بعيدة عن تلويث يد هذا الوطن الطاهر بدماء الأبرياء، أو بالتَّدخل الأحمق في منظومات الدول الأخرى. كما قلت في مقالي السابق: عُمان قوة الفضيلة، فإن للفضيلة ضرائب، وبعض هذه الضرائب يمكن احتمالها من أجل المبدأ العام.

لو جئنا إلى عُمان الحالة الحضارية لوجدنا أنّ مدرسة السياسة العُمانية مبنية على أفكار بسيطة للغاية، فهي ليست مثل المدارس السياسية التي تتبعها بعض الدول ثنائية المبادئ، مدرسة عُمان السياسية بنيت على قيم سامية، قيم العدالة، وقيم التعامل بالمثل، والعفو عن المخطئ، وتجنب الفتن ما أمكن. هذا لا يعني أنّ الدولة العُمانية القابوسية ضعيفة اليد ولا تستخدم الشدة، فلم تكن عُمان لتتحد لولا وجوب الشدة في آنه وحينه، وهذا ما حدث في بدايات النهضة المُباركة إلى أن بسطت يد قابوس العادلة يدها على البلاد كافة، وأثبت ذلك السُّلطان الهادئ الشاب لكل البلاد العربية أنّه جاء فعلا وحقا ليصنع بلاداً متكاملة في تعب شديد وجهد مضنٍ أخذ ما يقارب نصف القرن من العمل الدؤوب.

من أهم الأفكار البسيطة التي بنيت عليها عُمان: فكرة التفاؤل. فالذي كان ذات يوم يرى تلك الأراضي القاحلة، ونسبة الأمراض والجهل المتفشية ونقص المدارس والخدمات لم يكن ليظن أنّ هذا الوطن سيفعلها، ولكن رغم كل ذلك التشاؤم الذي نقرأه الآن في أرشيف جرائد الماضي، خرج الوطن العُماني وبدأ معركته في صناعة ديمومته، وصناعة الديمومة هي معركة صناعة أسباب البقاء. فكرة التفاؤل التي سادت الخطاب العُماني في كل سنواته ولا سيما في الخطاب الحكومي المتفائل دائماً، لم تتفق دائماً مع التشاؤم الحتمي الذي يحمله عالم الكتابة الوطنية في عُمان، كانت هناك فترات سادت فيها روح التشاؤم الكتابة العُمانية، وكانت هذه الروح في بعض الأحيان واجبة ولازمة أمام ظروف لا يمكن دفعها، مثلاً أسعار النفط العالمية، التشاؤم الاقتصادي ليس خطأ عندما تبني خططك بناء على ظروف قلقة، التشاؤم هنا يلعب دورا قويا، ويبدو للبعض أن هذا التشاؤم تعطيلٌ لحركة الحياة، ولكنك لا يمكن أن تبني المستقبل باللون الوردي، لأنّه لا يسير دائماً كما تحب. هذا على صعيد التشاؤم البنّاء، مثل الطبيب الذي يتشاءمُ من شفاء عدوى بكتيرية فيهاجمها بالمضادات المناسبة حتى تزول نهائيًا، لا يمكنُ أن يمارس الطبابة من ليس لديه قدرة على بناء تشاؤم مقنع، ومنطقي.

قوّة التشاؤم في الكتابة تعطي للكتابة صفات [شعرية] جميلة للغاية، وهناك فرق بين التشاؤم أمام قادمٍ قلقٍ، وبين [مصير] يائس. القادم القلق يمنح الكتابة قدرة على صناعة توقعات متعددة، بينما تشاؤم المصير يلغي باب الأمل نهائيًا ويدفعنا إلى النهايات الحتمية مبكرًا، كيف ذلك؟ عندما تقول لإنسان: كلنا سنموت!! فهذه حقيقة بديهية، ولذلك لا يأتي سؤال الموت المنسي غالبًا من عقولنا كسؤال مصير، فكلنا نعلم هذا المصير، ولكن السؤال: متى سنموت؟ هُنا يفتح التشاؤم الإيجابي بابًا من أبواب الأسئلة أمام المدخن وأمام شارب الخمر، وأمام مستهلك اللحوم الحمراء، لذلك نرى أنّ الكتابة في الكتب الطبية تحفل بالموت، ولكنك لا تشعر باليأس وأنت تقرأ عن ذلك الموت المحيق بالإنسان في نهاية الدرب، وإنما تشعر بالحياة، وهذا هو التلاعب المنطقي بشعور مرير مثل التشاؤم، أن تجعله سلاحًا في وجه تشاؤم آخر، والنَّارُ تحرق النَّارَ.

بدأت ملامح يأسٍ واضح تأخذ بعض جنبات الكتابة العُمانية، والمقلق في هذا الأمر أن للتشاؤم قدرة على تقريب الحتمي واجب الحدوث، وجعله مطلقاً وقريباً، ولأن شعرية اليأس ولغته الحزينة تطيب لها عقولنا العربية المعتادة على المأساوية منذ سنوات طويلة، نصنع دون أن ندري ككتاب تراجيديا لمأساة غير موجودة، ونستبقها بالاستعداد لها بالملابس اللغوية القاتمة. للتشاؤم وجه قبيح، وهو ذلك الوجه الذي يدخل على الأفكار بعاطفةٍ قوية ليجعلها قوية أيًضا لا باسم المنطق وإنما باسم الخيار العاطفي، وعندما تقع لغة القلوب في هذا التشاؤم المرير، تحمل الكلمات غير معانيها، وتبطن غير ظاهرها. لا يجب الاستخفاف بالكتابة المتشائمة، لأنّها أقوى من الكتابة المتفائلة وأكثر وصولاً وتأثيرًا، وأعتقد أنَّه آن الأوان لقيام حركة نقدية تجاه الكتابة في عُمان يقوم بها الكاتب نفسه تجاه الكاتب الآخر بعيدا عن الحسابات الجانبية مع السلطة لدفع هذه الموجة من الكتابة اليائسة التي بدأت تحل محل الطبيعي والمنطقي والواقعي باسم حتمية المصير، وباسم النهايات التي لم تحن بعد.