عبيدلي العبيدلي
وعلى النحو الذي عُولجت به الظواهر السلبية في المجتمعات التقليدية، ينبغي أن يسبق مشروعات تحقيق السلم الأهلي الإلكتروني، معرفة القوى المجتمعية التي تمارس الجرائم التي تشوهه، والأسباب الذي تشجع على انتهاك قيمه، وتحديد الدوافع التي تقف وراء ارتكاب الجرائم التي تخالف استتبابه، وتشخيص الأساليب والقنوات التي تهدم مفاهيم، وصولا إلى الوسائل المطلوب توفيرها من أجل اشاعته ونشر وجوده في صفوف القوى المجتمعية التي تنتهكه.
وأول الخطوات على هذا الطريق هي تحديد القوى المجتمعية التي تنتهكه، بوصفها العامل الأقوى الذي ينبغي مواجهته، بشكل سريع لا يحتمل التأجيل. كون إصلاح سلوكها يؤمن معالجة الأسباب الأخرى.
على المستوى الفردي المحدود، وخلاف المجتمعات التقليدية التي طورها الإنسان، يوفر المجتمع الافتراضي وقنوات تواصله فرصة كبيرة أمام مهددي السلم الأهلي الإلكتروني للتمويه والتخفي، سواء على مستوى الفئة العمرية، أو الانتماء المهني، أو النوع المجتمعي (الجندر)، إذ توفر لهم التقنيات المتطورة، والبنية الأساسية للفضاء الافتراضي، ما يحتاجونه من وسائل تسهل أمامهم عمليات التمويه.
فهي المرة الأولى في المجتمعات البشرية التي يتفوق فيها من هم أصغر سنا، على أقرانهم الأكبر منهم. إذ يتقن هؤلاء الأخيرين فنون استخدام الحواسيب، وهي أدوات الجريمة، وأساليب نصب وتشغيل تطبيقات التواصل الاجتماعي، وهي قنوات الاتصال، وارتكاب الجرائم الأكثر تأثيرا أكثر من سواهم من فئات المجتمع الأخرى.
ومن ثمَّ، وبخلاف المجتمعات التقليدية، لم يعد هؤلاء أحداثا بحاجة إلى إصلاح، بل ربما، وهو أمر يحتاج إلى جهد واجتهادات علماء اجتماع، ومربين، ورجال قانون، أصبحوا نوعا جديدا من "المجرمين" الذي يحتاجون إلى أسلوب جديدا مبتكرا من المعالجة.
أخطر من ذلك أنَّ وسائل وقنوات تواصل أفراد المجتمعات الافتراضية، تُبيح للمنخرط فيها مساحة واسعة من التمويه والتخفي؛ إذ يصعب -إلا في حالات استثنائية، وبعد بذل جهود لا محدودة- اكتشاف هوية الشخص، أو الفئة التي تنشئ العلاقة المجتمعية التي تهدد السلم الاجتماعي الإلكتروني. وهناك الكثير من الحوادث المستمرة التي كشفت مرتكبي جرائم ممن انتحلوا شخصيات طفولية، أو دينية، او حتى "جندرية"، من أجل الإيقاع بضحاياهم في شراكهم، أو اختلقوا صفة المؤسسة الدينية التي تبث الاطمئنان في نفوس من يتعاملون معه قبل أن يقع فريسة سهلة في أحضانهم.
ويتفاعل مع هذا الخطر عنصرٌ آخر هو صعوبة -إن لم يكن استحالة- تحديد مكان الجريمة، أو موقع اختفاء مرتكبيها. ففضاء المجتمع الافتراضي يبيح لهؤلاء الآخرين حرية التنقل وتمويه أماكن ولوجهم إلى ضحاياهم. تتصاعد هذه الخطورة مع توفر خدمات الحوسبة السحابية (Cloud Computing)، التي بدورها تفسح المجال أمام المستفيدين منها فرصة أكبر لتمويه شخصياتهم، وسرعة تغيير مواقع ولوجهم للفضاء الافتراضي. وكلما أحسن منتهكو طرق وأساليب استخدامهم لمجالات هذا النوع من الحوسبة كلما ازدادت خطورتهم على قيم السلم الأهلي الإلكتروني، وازدادت صعوبات ملاحقتهم، ومن ثم حصر أنشطتهم قبل القضاء عليها.
وتتنامى هذه الخطورة عندما نصل إلى الأسلحة الإلكترونية الفتاكة، التي لم يعد اقتناؤها محصورا في نطاق الجيوش النظامية المنضبطة، التي تسيرها إدارات محترفة بل اتسع هذا النطاق وتشعب، حتى بات في وسع الافراد اقتناء أسوأ أنواع الأسلحة وأكثرها فتكا بالإنسان. وبيتنا نشاهد يوميا استخدام الكثير من المنظمات الإرهابية لهذا النوع من الأسلحة الفتاكة، التي لم تعد معاركها تدور بين دولة وأخرى، بل بين فئة اجتماعية وأخرى تتقاسمان العيش تحت سماء بلد واحد.
على أنَّ أخطر عامل في هذا الفضاء، هو تدنِّي وعي المجتمع بفنون هذه الجرائم وخفاياها، خاصة في صفوف الراشدين ممن يفترض فيها التصدي لها. هذا التدني -المطلوب معالجته على وجه السرعة- ليس محصورا في إطار المواطن العادي، بل يتجاوزه كي يصل إلى المسؤولين عن حماية السلم الأهلي الإلكتروني؛ الأمر الذي يضع على عاتق من يتصدى للعمل من أجل ترسيخ قيم السلم الأهلي الإلكتروني، والدفاع عنه، مسؤولية ضخمة تشمل فيما تشمل إشاعة الوعي على أوسع نطاق في صفوف المواطنين.
وتزداد هذه الخطورة حضورا وتأثيرا عندما ندرك اتساع الرقعة الجغرافية التي تنتهك فيها حرمات السلم الأهلي الإلكتروني. ففي المجتمعات التقليدية، غالبا ما يكون مسرح هذا النوع من الجرائم محدودا بمساحة جغرافية تحددها الكيانات السياسية؛ الأمر الذي من شأنه أن يُسهِّل عمليات شن القوانين، ومن ثم تطبيقها. لكننا هنا أمام فضاء لا مترامي الأطراف، يشمل سكان الكرة الأرضية، بما يحملونه من تعارضات حضارية، وتناقضات عرقية، واختلافات عقائدية، جميعها تمهد الأرض أمام مرتكبي تلك الجرائم الإلكترونية التي تمس عصب السلام الأهلي الإلكتروني، وتهز كيانه من الداخل.
... إنَّ تنوع أسباب انتهاكات السلم الأهلي الإلكتروني، والدوافع التي تقف وراءها، والتي تبدأ من مجرد التسلية، وقضاء الوقت، إلى تلك التي تستمع بتعذيب الضحية وتمعن في الانتقام منها، يُبرِز الحاجة إلى طيف متنوع واسع من ذوي الاختصاص الذي يمتد من المصلحين الاجتماعيين، والأطباء النفسيين، لكنه لا يستطيع أن يستثني رجال الأمن. ولكل من هؤلاء طريقته الخاصة ومدرسته التي ينتمي لها، والتي تتعارض في مجالات كثيرة التي يجعل من تكاملها مهمة في غاية الصعوبة.
كل ذلك يثبت أن المجتمعات البشرية تجد اليوم نفسها أمام ظاهرة جديدة هي السلم الأهلي الإلكتروني، الذي كما سبق أن أشرنا لم يعد مصطلحا مبهما مجردا بل أضحى حقيقة واقعة تدق أبوابنا بعنف. ومن ثم، فمن الخطأ الاكتفاء باستخدام أفضل أنواع الخدمات الإلكترونية، بواسطة أكثر الأجهزة تعقيدا، دون أن يسبق ذلك قراءة الإفرازات المجتمعية التي ستولدها، ومن ثم وضع الضوابط التي تضمن السيطرة عليها قبل أن يفلت زمامها، وتجد المجتمعات البشرية نفسها أمام عدو متغول يهدد سلمها الأهلي ولا تستطيع السيطرة عليه أو الحد من مخاطره.