جنوب إفريقيا: جامعة واحدة تقدم خمسة فائزين بنوبل

 

د/ سيف المعمري

[email protected]

كل ما يعرفه العرب عن جنوب إفريقيا هو اسم نيلسون مانديلا، وسياسة التمييز العنصري التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وقادت بأفعالها إلى توحيد مشاعر العالم تجاه هذه التمييز الذي يجرد الإنسان من حقوقه وكرامته الإنسانية بسب لون بشرته، التي تعطي الآخرين مبرراً لاستعباده، ومن أجل النضال ضد كل ذلك سجن نيلسون مانديلا لفترة طويلة جدًا بلغت ثمانيّة وعشرين عاماً، وضمن كثيرين مع التحولات التي شهدها العالم، ومع أفول عهد التمييز العنصري، أنّه مع توليه الرئاسة سوف يقوم بمذبحة ضد "البيض"، وسوف يعلق زعماءهم على المشانق، وسوف يخطب في السود أن انتقموا لسنوات المعاناة التي مرّت عليكم، وطاردوا البيض، واقتلوهم إينما عثرتم عليهم، ولكنّه فاجأ الجميع برفضه لكل ذلك، لأنّه كان يرغب في بناء بلد يتعالى حول ذلك الماضي، مجتمع يبدأ صفحة جديدة، يتم فيها توظيف التعليم كأداة لبناء مجتمع تعددي يقوم على أساس المواطنة، بدلا من توظيفه من أجل تقسيم المعرفة بين المواطنين، فهناك معرفة للسود وأخرى للبيض، لأنّ البيض كما عبّر أحد المواطنين السود في هذه الدولة كان يعتقدون أنّ الله خلقهم ليكونوا أسياداً، وبالتالي لابد أن يتلقوا تعليما مختلفا يتفق مع متطلبات السيادة والقدرة العقلية التي يتمتعون بها، فهل كان من الممكن تحدي مثل هذا وإعادة بناء نظام تعليمي يقوم على العدالة والمساواة؟

هذه المجتمعات لا تخشى أن تواجه مثل هذه الأسئلة الصعبة والكبيرة كما نخشى نحن العرب مواجهتها، ودائما تصر أن تحسمها للصالح الوطني، فلا تقرر إجابتها بالنفي لأنّ الإجابة إن سرت جماعة لن تسر الجماعة الأخرى، وتضيع بسبب ذلك التشنج أوطان بكاملها، وينقسم أهلها، ويوظف التعليم من أجل تعزيز أيديولوجيات ضيقة تقوم على الفوقيّة والكراهيّة، ولذا ما كان عقلاء جنوب إفريقيا وفي مقدمتهم نيسلون مانديلا ليقبلوا ذلك الفصل التعليمي الذي كان سائدًا في الماضي حيث وجدت مدارس لكل جماعة لوحدها: فهناك مدارس للبيض، ومدارس للسود، ومدارس للآسيويين، ومدارس للملونين، وعرف هذا النظام التعليمي "بالبانتو"، وقد عبر أحد الآباء عن هذا النظام بقوله "إن التعليم يجعل المرء حينما يقف أمام المرآة يرى نفسه دونيا، وهو يجبرك على أن ترى نفسك أفقر الفقراء. لأنه بالنسبة لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية، فإنّ الله أرادك أن تكون في هذا الوضع، والتعليم يقنعك بألا تثير أي تساؤلات حول هذا الوضع الدوني الذي افترض عليك مسبقا!

لقد كان التعليم أحد الأدوات المهمة في التحولات التي شهدتها جنوب إفريقيا في التخلص من أرث الفصل العنصري التي أرساها الحزب الوطني الأبيض الذي حكم جنوب إفريقيا لما يقارب الخمسين عاما (1948-1994)، وهو العام الذي أجريت فيه انتخابات فاز فيها نيسلون مانديلا ليكون أول رئيس أسود للبلاد في بلد يشكل فيها السود الغالبيّة المُطلقة، ومع ذلك عبّر نيسلون مانديلا عن رغبته في بلد تعددية بقول: "نريد دولة قوس قزح تعيش في سلام مع نفسها ومع العالم"

إنّ من المؤشرات التي تعكس تحسن الوضع التعليمي المدرسي في جنوب إفريقيا نتيجة إزالة الحواجز العنصرية هو حصولها على المرتبة (56) من بين (144) دولة في مؤشرات تقرير التنافسية العالمية لعام 2014- 2015 م في جودة التعليم وهذا يعتبر مركزا متقدما لهذه الدولة، كما أنّ جامعاتها كما ذكر سلام سرحان في مقال نشرته له جريدة العربي في عام (2013) بعنوان "جنوب إفريقيا تتربع على عرش التعليم الإفريقي"، تحتل المراكز المتقدمة في جميع التصنيفات العالمية الرئيسية، بل إن تصنيف جامعة "كيب تاون" حصلت في عام (2012) على المركز (103) وهو من المراكز المتقدمة على مستوى العالم، وهي جامعة حكومية وضعت لنفسها سياسة بحثية صارمة، حيث هيأت للباحثين السبل من أجل يتفرغوا للبحث في المراكز البحثية التي تضمها هذه الجامعة، ولا يمكن أن تحقق الجامعات ذلك إن كانت تدار على أنّها مؤسسة حكوميّة بيروقراطية، يثقل كاهل أساتذتها بالتدريس فقط، ويصبح من يفرغ للبحث أشبه بالموظف الذي بدون وظيفة، مما يجعل الجامعات تكون بعيدة عن كونها قواعد بحثية لمعالجة المشكلات، وتقديم الحلول والاستشارات، بدلا من إنفاق أموال باهظة لمؤسسات استشارية من خارج الحدود، هذه الجامعة ينتمي لها خمسة من الأساتذة الحاصلين على جائزة نوبل منهم رالف بنش الذي حصل على الجائزة في مجال السلام في عام 1950 لدوره في عقد اتفاقية الهدنة سنة 1949 بين إسرائيل ودول الطوق العربي، وماكس تيلر وهو عالم فيروسات حصل على الجائزة في الطب سنة 1951 لاكتشافه لقاحاً ضد الحمى الصفراء، والان كورماك وهو عالم فيزياء حصل على الجائزة في الطب عام 1979 لأبحاثه حول التصوير الطبقي بالأشعة السينية (الأشعة المقطعية)، وآرون كلوغ وحصل على الجائزة في الكيمياء سنة 1982، وجون ماكسويل كويتزي وهو عالم حصل على الجائزة في الآداب سنة 2003.

لقد تحولت هذه الجامعة التي تأسست في عام 1829م باسم كلية "جنوب إفريقيا"، إلى منارة لكل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في جنوب إفريقيا، حيث أصبح الجميع يراها نموذجا يحتذى في خلق البيئات البحثية، وخيرا للمجتمعات أن يكون لديها جامعة واحدة تقوم على أسس متينة، وتنتج معرفة من أن يكون لديها عشرات المؤسسات التي تشبه في حقيقتها "المدارس الثانوية"، كل ما تقوم به هو وضع كتاب في يد الطالب، وتوفير أستاذ يساعد الطالب على تعلم ذلك الكتاب، ولذا فإنّ جنوب إفريقيا وهي من الدول المتقدمة في كثير من الصناعات ومن أهمّها التعدين والسيّارات والأسلحة حريصة على وجود جامعات تساعدها على تطوير مشاريعها الصناعية، بدلا من أن توجد جامعات تكون عبئًا عليها، تخلق لها إشكاليات تنموية نتيجة تقديم خريجين ذوي كفاءة لا تقرها مؤسسات العمل والتوظيف، ولذا سارت جامعات أخرى في هذه الدولة على نفس النهج وبدأت تتقدم في التصنيفات العالمية مثل جامعة ويتووترزراند وجامعة ستيلنبوش وجامعة كوازولو ناتال وجامعة بريتوريا وجامعة جوهانسبرغ.

لقد حصلت هذه الجامعة على هذه المكانة من خلال تأسيسها لمجموعة من المراكز البحثية المتقدمة، والتي تركز على مجالات غير مركز عليها في القارة الإفريقية، وجلب الدعم من أجل تفعيلها بنحو أفضل مثل شبكة إفريقيا لمراقبة الأرض، هذه المراكز التي ذكرها سلام سرحان في مقاله المذكور في الأعلى وهي مركز لمراقبة الحياة الطبيعية والتنمية المستدامة عبر الدراسات العلميّة ويتلقى دعمًا من فرنسا وألمانيا، ومركز علوم الرياضيات التطبيقية: وهو مركز عالمي للبحوث المتقدمة في مجال الرياضيات، ويركز على دراسات الكوزمولوجي المتعلقة بالفضاء والتوبولوجي المتعلقة بدراسة المساحات والأشكال وهو من أرفع المراكز العالمية في هذا المجال، ومركز الدراسات اللغوية وعلم الدلالات والإشارات (ريتوريك) وهو المركز الوحيد من نوعه في قارة إفريقيا، ويعنى بفنون التعبير وعلوم الأبستمولوجيا والدلالات، ومركز دراسات الفيزياء: ويهتم بعلم الجزيئات والدراسات الذريّة المتعلقة بأجزاء الذرة مثل الإلكترونات والأيونات، إضافة إلى دراسات وبرامج الكومبيوتر، ومركز دراسات الهندسة الإلكترونية: ويعمل حاليًا على بناء أكبر تلسكوب لرصد الإشعاعات في العالم بحلول عام 2020، ومعهد الأمراض المعدية والدراسات الطبية: ويدرس تطوير اللقاحات، ومنها تطوير لقاح لمواجهة مرض الإيدز المنتشر في جنوب إفريقيا ودول كثيرة في قارة إفريقيا، ومركز التصوير الطبي، الذي يواصل الإنجازات التي حققها ألان كورماك الذي حصل على جائزة نوبل لتطويره التصوير بالأشعة السينية.

لم تكن العملية متوقفة على تأسيس المراكز فقط إنّما كان الاهتمام بأن يكون على رئاستها، ويعمل فيها أهل الاختصاص في المجالات التي تركز فيها، أي أنّها لم تحوّل إلى أماكن يوضع فيها من ليس لهم علاقة بها كما تعمل بعض الجامعات في المنطقة، حيث تجد متخصصا في العلوم يوضع على مركز للدراسات التاريخية، ومتخصصا في اللغة الإنجليزية يوضع على رأس مركز للتطوير التعليمي، ومتخصصا في الاقتصاد يوضع على رأس مركز للبحث في علم الاجتماع، وهكذا تفرغ المراكز منذ البداية من قدرتها على العمل، ونعود ونسأل بعد ذلك لماذا تتقدم جامعات العالم في التصنيفات العالمية في حين تتراجع جامعات المنطقة التي تدار بموازنات ضخمة، ونسأل أيضًا هل يمكن أن تقدم يومًا جامعة عربية باحثًا يحصل على جائزة نوبل؟

لا شك أنّ بقاء الجامعات ومؤسسات التعليم العالي بهذا الوضع في المنطقة، والسماح بتوالدها قبل إكمالها مدة الحمل المعروفة، سيجعلها تولد غير متكلمة النمو، مما يجعل الدولة ملزمة بوضعها في زجاجة وتهيئة كل سبل النمو لها، حتى تستطيع الخروج ومواجهة العالم بدون أي إشكاليات، لكن ماذا لو امتدت مدة الحضانة إلى عشرين عامًا وأكثر بدون أي أمل في النمو؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يطرح، لأنّ طول الفترة الزمنية يتطلب الاصلاح والتدخل، فالجامعات مراكز محفزة على التقدم، وليس مؤسسات مهمتها مشاركة المجتمع "نواحه" و "شكواه" من الإشكاليّات في مختلف القطاعات.