الفلوجة التي لا نعرفها

سلطان بن خميس الخروصي

بعد سقوط بغداد في العام 2003 وأمام البربرية التي كانت تشنها قوات الغزاة في العراق من قتل وسلب وتدمير واستحقار لكرامة الإنسان وقدح في قدسية الوطن؛ انتفض ثلة من أبناء الفلوجة (مدينة المساجد) والتي تتمتع بكثرة منابرها ضد وجه هذا المارد الفاحش بالغطرسة والتنكيل (الأمريكان وزبانيتهم)، لتنقضي تلك الوقفة الاحتجاجية بنهاية مأساوية راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء والتي رفعت من وتيرة الشحن المعادي لوجود هؤلاء "العلوج" - كما سماهم وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصَّحاف - وتجسد ذلك الغضب في إسقاط مروحية "شينوك" العسكرية والتي قتل فيها عدد من الجنود الأمريكيين، وفي العام 2004 كانت الشرارة التي أثارث الغضب الأمريكي الذي شن حربا ضروسا ضد كل ما هو حيٌّ في هذه المدينة والتي تبعد حوالي 60 كيلومترا شمال العاصمة بغداد؛ إذ استطاع فتية من أبنائها أسر أربعة من مرتزقة شركة "بلاك ووتر" وسحل جثثهم في الشوارع وحرقها وعُلّقت على جسر يُطل على نهر الفرات كدلالة غضب ورفض لاستباحة العراق من قبل الغزاة وأذيالهم.

حينها تدخلت الشركة بكل عدتها وعتادها لحفظ ماء الوجه وهي مصدومة بهكذا جرأة وغِلظة قلب يملكها هؤلاء الفتية في هذه المدينة التي "لم يعرفوا" خلفياتها التاريخية والعسكرية، فأعلنت الحرب عليها "المعركة الأولى" من خلال القصف المتواصل واتباع سياسة الأرض المحروقة وتبرير ذلك بأنه "ردت فعل طبيعية"، بعدها استكانت الأمور لبُرهة من الزمن لتُعلن قوات الغزاة أنها تُحضِّر "للمعركة الثانية" في سبيل "تركيع" المدينة وارجاع ولائها وطاعتها لولي الأمر "شرشبيل"، فقامت وبمعية الحرس "الطائفي" بقطع الماء والكهرباء والإمدادات الغذائية والدوائية وبدأت بحرق المدينة بكل ما أوتيت من قوة لمدة خمسة أشهر متواصلة تناوب الليل والنهار على استقطاب كميات مهولة من البارود والموت والدخان والدماء وروائح احتراق كل ما هو حي وإمطار المدينة بالقنابل الفسفورية المحرمة دوليا وقنابل "النابالم" شديدة الاحتراق، ناهيك عن تدمير 90% من البنية الأساسية للمدينة - حسب تقارير رسمية حكومية - من المستشفيات والمدارس والمعاهد والمساجد وغيرها وكل ذلك أمام مرآى ومسمع العالم ومن هذا الحضور في هكذا فلم دموي كان السادة العرب ونظيرتهم إيران في المقدمة دون أن يكون لهم أي حراك ملموس!

بقيت الفلوجة صامدة في وسط هذا الزحف العسكري المخيف والذي لا تحتمله دولة فكيف بحجم مدينة؟، وظلت تلك المناوشات منذ العام 2003 وحتى 2007 بين "حيص وبيص" في من يكسب الرهان؟، فالفلوجة ظلت تقدم مقاومتها من خلال نعوش الشرفاء الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن مجد العراق العظيم الذي باعه العرب في سوق النخاسة لمرتزقة الأمريكان وايران ومن على شاكلتهم، بينما ظلت فوهات البارود تقصف الحياة في هذه المدينة تارة باسم "تحريرها" وأخرى "لطرد الإرهابيين" وتارة "إرجاعها للحكومة المركزية"، وقد أنعشت هذه التصرفات جيوبا كانت نائما، وحركت المياه الراكدة منذ العام 2014 والتي عرفت لاحقا بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" لتبدأ مرحلة جديدة من التنكيل والمكيدة نحو هذه المدينة والتي نشهد حرقها من جديد في هذه الأيام من قبل الحشد الطائفي وبعض مرتزقة الجيش الذين يَسِيمُون بأنفسهم بحماة الوطن، والتي كان آخرها تعيين عدو العراق اللدود "قاسم سليماني" مستشارا لحكومة العراق الجديدة!.

يبدوا أن حب الانتقام من محرقة "بلاك ووتر" لا تزال جاثمة في قلوب وعقول الغزاة، ولا يزال حب رد الكيل بالمكيالين على أشده، والأخطر من ذلك هو استبدال جلود الانتقام من الأمريكي إلى الحشد الطائفي وبتدخل سافر من كان طرفا في حرب الثمان سنوات وديدنه في ذلك انتهاج ثقافة "كش ملك" دون الالتفات إلى "ارحموا عزيز قوم ذل"، ها هي الفلوجة من جديد تعود للمشهد العراقي والعربي بدموية أكثر وبعنهجية أشد، الأمريكان اكتفوا بتوفير التغطية الجوية وهم يرفعون تقاريرهم جهارا نهارا عن انتهاكات طائفية محضة توثِّقها التقارير الدولية والصور وشهود العيان، ها هي الفلوجة تضرب موعدا مع الموت والتهميش والتدمير وحرق الحياة فيها من جديد، ها هو "قاسم سليماني" ــ مهندس ــ إيران الأول في تدمير العراق يدخل المدينة عنوة بدعم أبناء العراق في الدم وأبناء إيران في الولاء الطائفي النَّت، هو اليوم - أي سليماني - بشهادة إبراهيم الجعفري - وزير خارجية العراق الكرتوني ـــ مستشارا رسميا لحكومة العراق فهل من معتبر؟!

الفلوجة حتى اللحظة لم تسقط في يد المعتدين لكنها لن تصبر بقدر ما قدمته من تضحيات تدافع عن كرامة العرب والعراق الأصيل، قد يقول التاريخ أن الفلوجة التي فتحها خالد بن الوليد في 12هـ في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - استطاعت دحر العثمانيين من قبل، ومن بعهدهم الإنجليز الذي عمدوا للانتقام منها بعد مقتل أشهر ضباطها "جيرارد ليجمان" بيد أحد شيوخها إلا أنهم تركوها خائبين، وعلى الرغم أنها استطاعت أن تكون جسر دفاع مستميت عن كرامة العراق وخلال سنوات الاحتلال الأربعة عشر عاما هل تستطيع أن تقدم الأكثر أمام السلاح الطائفي الشرس الذي لا يتق الله في دينه أو وطنه، والسؤال العريض الذي نطرح هنا: من يتحمل فاتورة استباحت الفلوجة في ظل تمكين القيادات الإيرانية في المؤسسة المدنية والعسكرية العراقية؟.

حفظ الله العراق وأرجعه منيرا مستنيرا بحضارته وعراقته ومكانته في البيت العربي.

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك