علي فخرو
أحد الأسئلة الأساسية التي تطرحها الفلسفة، هو: هل المجتمع في أساسه تجمُّع مجموعة من الأفراد، لا أكثر ولا أقل، أم أن الأفراد تخلقهم مجتمعاتهم التي يعيشون فيها؟ هذا سؤال مرتبط مباشرة بحرية الإنسان: هل يُمارسُ حريته كفرد مستقل بحسب قناعاته العقليَّة والضميريَّة، أم أنه يمارس حريته بحسب ما يقوله المجتمع أو ما يسمح به؟
لنحاول فهم الموضوع من خلال نتائج الانتخابات البلدية الجزئية التي جرت منذ بضعة أيام في لبنان. إنَّ غالبية الشعب كانت غير راضية، بل وساخطة ومصابة بالقرف والإحباط، بسبب عدم كفاءة البلديات في قيامها بمهماتها المجتمعية. ووصل عدم الرضا ذلك إلى قمته في مظاهرات جماهيرية صاخبة بسبب الأزمة الشهيرة "جمع القمامة والتخلص منها"، عندما امتلأت شوارع مدن وقرى لبنان بالقمامة وروائحها الكريهة.
كرد فعل لتلك الأزمة، كان من المفترض أن تخرج نسبة هائلة من الشعب اللبناني لتصوت، وتخرج كل أعضاء المجالس السابقين، وتأتي بوجوه جديدة نظيفة كفؤة. لكن ذلك لم يحدث، فنسبة المنتخبين كانت هزيلة، والتصويت ذهب إلى صالح قوائم الأحزاب المتهمة بالفساد والطائفية وخدمة العائلات الغنية المتنفذة.
لقد أثبت ذلك المشهد اللبناني، وهو مثل واحد من مئات الأمثلة العربية المماثلة، أن غالبية الأفراد اللبنانيين لم يتصرفوا كأفراد أحرار مستقلين خاضعين لعقولهم وضمائرهم، وإنما تصرفوا كنتاج لما تمليه ثقافة مجتمعهم الطائفية العشائرية الخاضعة في قيمها لمصالح أقليات المال والوجاهة الطائفية والعائلية في المجتمع اللبناني. لقد ضرب الفرد اللبناني بعرض الحائط مشاعره الشخصية وآماله المجتمعية ومواقفه الغاضبة السلبية تجاه طبقة الحكم السياسية، والتي عبر عنها في مظاهرات بيروت الصاخبة الرائعة منذ بضعة شهور، واستبدلها بالخضوع لإملاءات الطائفة والحزب وزعيم المنطقة وبممارسة انتهازية للسياسة.
في لبنان، كما في كل الأرض العربية، نحن إذن أمام مجتمع ينتقد سلطة الحكم في بلده ليل نهار، ويخرج عليها أحياناً بالمظاهرات والاعتصامات وأحياناً بالسلاح، لكنه يظلُ في كل المناسبات ممارساً لعادات وسلوكيات بدائية متخلفة تزيد في بؤسه وعجزه وهوانه أمام سلطة حكم الدولة. إنه مجتمع يتكلم عن الحرية، لكنه لا يمارس متطلبات وجودها، ينتقد الفساد لكنه لا يقاومه في داخله، يتكلم ويثرثر ويطلق النُكات عبر التواصل الاجتماعي لكنه لا يقلبه إلى فعل سياسي، حتى عندما يحصل على فرصة لعمل ذلك.
لا نعني بذلك الحكم القاسي على مجتمعاتنا تبرئة أنظمة الحكم التي تضع العراقيل تلو العراقيل، عبر السنين والقرون، أمام نضوج المجتمعات ومؤسساتها المدنية، فقد كتب الكثير عن تلك العراقيل. لكننا معنيُون بالتذكير بأن الدولة هي مكونة في الأساس من مجتمع وسلطة حكم.
ولما كانت سلطات الحكم مليئة بالمثالب ونقاط الضعف، فإن الدولة العربية لن تخرج من ضعفها وفشلها التنموي وخضوعها للخارج وعجزها عن ممارسة العقلانية والعدالة والتجديد والانخراط في العصر، لن تخرج إلا إذا قام المجتمع، ممثلاً في الأساس بأفراد ملتزمين ومؤسسات مدنية نشطة وفاعلة، بمسئولياته تجاه دولته. مسئولية المجتمعات العربية في إخراج دولها من الجحيم الذي تعيشه الآن أصبحت مسئولية تاريخية ثقيلة ومعقدة، لكنها ملحة ومصيرية.
لكن المجتمعات التي لا تستطيع أن تثور على نفسها، على نقاط الضعف فيها، على كل تخلف في ثقافتها، على كل تراث بليد تسلمته من تاريخها، حتى تخلق أفراداً أحراراً جديدين فاعلين، فإن تلك المجتمعات ستضيف عجزها إلى عجز الحكم العربي التاريخي، والعجزان سيقودان إلى دول فاشلة كسيحة، كما نراها الآن ماثلة أمامنا عبر الوطن العربي، إذ يعيش بؤساً تاريخياً لم يُرَ مثيله.
لنتمعن في غياب المجتمعات، القادرة الفاعلة المتحررة من بلادات ثقافتها وسلوكياتها وعاداتها، في فلسطين وهي تواجه الصهيونية المغتصبة، في الدولة الليبية وهي تصارع الموت والاندثار، في دولة سورية وهي تنزلق نحو أن تصبح جيفة مُهترئة، في دول المغرب العربي وسلطاته لا تملُ من التلهي بموضوع الصحراء وعدم التقدم ولا بخطوة واحدة نحو اتحاد مغاربي حقيقي غير صوري، في دولة مصر وهي تواجه الإرهاب والدمار الاقتصادي وإمكانية الرجوع إلى الاستبداد الأمني، في دولة العراق وهي تواجه التقسيم والنهب والجهاد التكفيري بأدوات سياسية طائفية فاسدة تراوح مكانها، وباستجداء بائس للخارج ليخرجها مما هي فيه.
الأمثلة كثيرة حيث في كل مكان يلعب اللاعبون الخارجيون بتناغم مع سلطات الفساد في الداخل، بينما لا يشعر الإنسان أن هناك مجتمعات لها كلمة وإرادة تنظيم، في فعل وليس في بكاء أو حسرة، أو وقوف المتفرج، أو في قبول أن تصبح هي، المجتمعات، أدواتٍ في يد القوى الطائفية أو القبلية أو العسكرية أو المالية أو حتى الخارجية.
المجتمعات، كأفراد ومؤسسات، تحتاج إلى أن تراجع ما فعلته هي بنفسها لتنتقل إلى ما يجب أن تفعله لإنقاذ نفسها وإنقاذ دولها.
هناك قول لسياسي بريطاني: المجتمع يحتاج إلى أن يصدر أحكاماً أكثر ويتفهم أقل. المجتمعات العربية تحتاج إلى أن تُمارس ذلك ليس فقط بحق سلطات دولها وإنما أيضاً بحق نفسها كجزء أساسي من تلك الدول.